الرئيسية تقارير ومقالات رجال دين عرفتهم

رجال دين عرفتهم

8 ثانية
0
0
1,121

رجال دين عرفتهم

نادين عبد الله*

فجرت بداخلي أحداث الإسكندرية الأليمة وبالأكثر الانفجار المجتمعي الطائفي الذي سبقها والذي تلاها، ذكريات جميلة مناقضة

تادين عبدالله
تادين عبدالله

لها بشكل جزئي وكلي، كانت هذه الذكريات بالنسبة لي كقطعة الحلوى التي يساعدك مذاقها الحلو علي تحمل مرارة كأس تتجرع مرارته كل يوم رغم عنك.

فقد تذكرت ذكرياتي الجميلة في مدينة لوزان بسويسرا تلك المدينة الطلابية الرائعة التي أمضيت فيها عاماً بأكمله في منحة دراسية، عاماً كان الأروع من بين سنين حياتي لأنه كان ملئ بالاكتشافات والخبرات التي أثرتني وأثرت علي طريقة نموي الشخصي.

فمنذ أن وطأت قدامي هذه المدينة الصغيرة تأكدتُ أن نجاحي العلمي والشخصي متوقف على قدر نجاحي في الاندماج الاجتماعي، ولم يكن الأمر الأخير نوع من الرفاهية في دولة تتمتع بالفردية في كل مناحي الحياة بل كان أيضاً حافز للتوازن النفسي والعاطفي وعاملاً مساعداً علي تخطي الغربة والوحدة.  فلن انسي مثلاً كم كان قاسياً علي نفسي في أول يوم وصولي في بيت الطلاب الذي كنت سأعيش فيه أن أحمل حقيبتي بمفردي، أصعد بها السلالم، لا أجد أحد في وجهي، فأدخل حجرتي التي كنت أعرف رقمها بالإيميل، والذي ترك لي المفتاح بداخلها، فقد كانت الساعة قرب الرابعة والنصف بعد الظهر، وهذا يعني أن موظف الاستقبال غادر المكان في ميعاده -الذي لا ينتظر دقيقة واحدة بعده- وترك لي المفتاح داخل الحجرة الخاصة بي، كي أواجه مصيري.!

أمضيتُ هذا اليوم الكئيب بمفردي، وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى قسم الأنشطة الاجتماعية والثقافية بالجامعة وأخذت برنامج الفعاليات التي قررت الاشتراك في جميعها، حتى أخرج من جو العزلة الخانق الذي فرضته عليَّ غربتي. وشاركت بالفعل في أول رحلة معهم، وكانت زيارة تاريخية لمدينة “لوزان” للتعرف علي أهم معالمها تلتها زيارات اسبوعية لباقي المدن السويسرية رائعة الجمال، زيارات بفضلها لم تعد فكرة الاندماج الاجتماعي تُطرح لأنها تحققت بالفعل وفي وقت قصير، بفضل سياسيات ناجحة وضعتها الجامعة ولم يكن مطلوب مني سوي التفاعل الإيجابي معها.

وفي هذا اليوم قابلت بالصدفة البحتة قسيس بروتستانتي تحدثنا معاً ودعاني كي احضر “غذاء يوم الأثنين في الجامعة”، والذي كان عبارة عن غذاء تعده مجموعة تحوي أباء وقسيسين كاثوليك وبروتستانت – كنظام الأسر داخل الجامعات المصرية- ولكن الفرق هو أن هؤلاء الآباء والقسيسين يعملون بمرتب داخل الجامعة من أجل خدمة الطلبة الروحية إن هم أرادوا ذلك، وهو الأمر الذي أعجبتني فكرته لأنه يعكس نوع من التصالح مع العلمانية بعكس علمانية  فرنسا “المتوحشة”، والتي شعرت في جامعتها بوحشة لم أشعرها ولو للحظة في سويسرا.

فعلمانية الدولة الراسخة في سويسرا لم “تُعلْمِن” بالضرورة المجتمع، فلم تجبر الجامعات أن تأخذ نفس المنحي بشرط توافر ضمانات حرية واحترام عقائد الآخرين، من خلال توافر 3 شروط:

1-احترام حرية من يرفض التعامل مع هذه المجموعات “الروحية” التي تظل “اوبشن” بين عدة آخرين، وللطلبة حرية الالتحاق بها أو رفض التعامل معها أو حتى أخذ موقف محايد منها، ومن جهتها لا تقوم هذه المجموعات بالسعي لاستقطاب الطلبة “بالطرق المعروفة في مصر” بل تقدم خدامتها لمن آتي إليها بملء إرادته.

2- لا تقتصر أنشطة هذه المجموعة علي البعد الروحي، بل الثقافي والاجتماعي أيضاً.

3- وأخيراً، لا تقتصر هذه الأنشطة علي المسيحيين بل توجه لجميع الطلبة باختلاف توجهاتهم الفكرية أو الدينية و العقائدية – مسيحيين، بوذيين، هندوسيين، مسلمين أو ملحدين… إلخ- الجميع سواء.

وكانت فقرة “غذاء يوم الأثنين” الذي نتناول فيه كل أسبوع وجبة من بلد مختلف  أحب الفقرات إلي قلبي لأنها كانت تمثل بوتقة انصهار حقيقية تقربنا من بعضنا البعض رغم اختلافاتنا، وتذكرنا في كل لحظة أن ما يجمعنا أعمق بكثير مما يفرقنا، فالجميع يجلس علي نفس المنضدة البسيطة يقرصه الجوع، ينتظر الطعام في لهفة، وفي هذه اللحظات نتشارك مع بعضنا البعض الأفكار، الهموم، المتاعب والمباهج، فنشعر جميعاً إننا بشر متساويين  وإن اختلفنا في الأفكار والاختيارات وأسلوب الحياة.

وفي إحدى المرات بعد رحلة لزيارة  “دير القديس موريس”، وهو أحد أكبر الأديرة في سويسرا والذي بُني من أجل تكريم شهداء الأقباط المصريين، فوجئت بوجود صديقة ملحدة في وسطنا، لم أتعجب من كونها ملحدة فهي حرة تماماً في اختيارها العقائدي ولن يؤثر ذلك في شئ علي صداقتنا، ولكن الذي  أدهشني هو مواظبتها علي جميع أنشطة المجموعة بما فيها زيارات الكنائس والأديرة الأثرية بل ومشاركتها في تنظيم  الفعاليات بنفسها واعتماد قسيسي المجموعة عليها اعتماد واضح. فسألتها عن السبب، وكانت هذه إجابتها: “ولماذا لا آتي وأواظب؟ أنشطتهم رائعة، محبتهم غامرة، روحهم جميلة، والأهم من ذلك يحترمون اختياري، وأنا من جهتي أيضاً احترم رسالتهم ولا أدعو للإلحاد جهراً”. وأضافت: “أنت عرفتي ذلك فقط في سياق حديثنا، ولو لم يتطرق الحديث بنا إلي ذلك لما سعيت إليه، هذا أمر يخصني ولا يخص غيري، وكل واحد منا حر في اختياره”.

كان هذا الحديث ملهم جداً بالنسبة لي لأني تأكدت أن الحرية تولد حرية، والاحترام يولد احترام، وهذا ما ينقص في مجتمعي الذي فرض كل واحد فيه نفسه واصيًا علي غيره مفترضاً في نفسه المعرفة ومعطياً ذاته حق الوصاية علي آخر أفترض فيه عنوة قلة النضج وصغر العقل، ناسياً أو متناسياً أن لا احد يملك الحقيقة كاملة بل يملك فقط جزء منها، ومن ادعي غير ذلك فهو خاطئ وكاذب.  وماذا كانت النتيجة؟ كانت، مجتمع مشوه تنتشر فيه مشاعر الخوف والريبة من الآخر، لأنه صدق في حقيقة كاذبة ألا وهي “السيطرة علي الحقيقة”،  مجتمع ولد قيم العنف بدلاً من الحرية والاحترام لأن أفراده  اغفلوا أن هذا الآخر المختلف عنهم هو الذي يجعلهم يدركوا هذا الجزء المختبئ من ذاتهم، هذا الجزء الذي يجهلوه ولن يعرفوه إلا من خلال شخص آخر نجحوا في التوحد به ومعه رغم اختلافه عنهم.

ومنذ ذلك اليوم أحببت أكثر وأكثر هذه المجموعة، أحببتها لأنها نجحت في أن توصل لنا  جميعاً أن قيمة الإنسان في إنسانيته وليس في دينيه أو لونه أو انتمائه أو حتى فكره، الإنسان يستحق الاحترام لأنه إنسان، يستحق الاحترام لأن بداخله روح، بداخله نفحة من الإله، لم احزن قط علي “أقباط” ضاعت حياتهم هدراً علي أيادي إرهابية آثمة، بل حزنت بالأكثر علي “أرواح” بشرية ثمينة جداً سلبت ظلماً وبهتاناً.

وجدير بالذكر أن قسيسي هذه المجموعة لم يصروا ولو مرة واحدة علي تبادل قبلات باهتة في العلن وكراهية في السر، ولم يحدثونا قط عن أهمية الحب والإخاء والتسامح، بل كانت أفعالهم تتحدث عن مكنونات قلوبهم حيث يعمل القسين مع بعضهما البعض وكأنهم روح واحدة، رغم تاريخ مؤلم تأصلت فيه البروتسانتية علي حساب الكاثوليكية في سويسرا عبر حروب دامية.

وخلال تلك الأنشطة تعرفت بعمق أكثر علي هذا القس البروتستانتي فيرجيل روشا، الذي كان من اقرب الناس إلي في لوزان، أعجبت بحماسته وسرعة حركته، محبته الغامرة وتواجده بصفة شبه يومية في وسط  طلاب الجامعة- وليس منعزلاً في مكتبه أو في مكان أداء صلاته. بالتأكيد، كانت عقيدته كقس بروتستانتي مختلفة عن عقيدتي الكاثوليكية، ولكني لم أشعر يوماً أن هذا الاختلاف مثل لي عائقاً في التواصل معه، بل بالعكس كان هذا الاختلاف يثري حوارنا.

وفي إحدى المرات قال لي : “نادين، علي فكرة أنا زرت مصر وأحببتها كثيراً جداً جداً، بلد جميلة، ولكني لاحظت شئ عجيب في تدين الناس عندكم، إنه تدين مرتبط بالله ومنفصل عن المجتمع. فسألته باهتمام: “ماذا تقصد بالضبط” ؟ قالي لي في صوت ممتلئ شجناً: “سأعطيك مثلاً: تعرفت علي إحدى العائلات الغنية والمتدينة في القاهرة، ونحن سائرين في شوارع المدينة وطرقاتها، كنت ألاحظ  الألم في وجوه من نتقاطع معهم، فقد كان الفقر بادياً علي مظهرهم، خاصة وإنه من وقت لآخر كنا نصطدم بشحاذين كُثر، وعندما سألت هذه العائلة الغنية عن دورها تجاه كل هذه المآسي الإنسانية، تلقيت إجابة عجيبة جداً بل وصادمة: “نحن نصلي ونعطي الله حقه، أما الفقراء فنتحصن بعيداً عنهم”. وأغلق زجاج نافذة السيارة حتى لا يزعجه شحاذ آخر ومضي.. !!

تعرفت هناك أيضاً علي الأب جيوفني الكاثوليكي، الإيطالي الأصل، والذي كان يجيد 6 لغات إيجاده تامة من بينهم اللغة العربية والفارسية، كان يقرأ كتب نجيب محفوظ بنهم، فجلبت له كتاب “أولاد حارتنا” كهدية “الكريستماس”، يحب الثقافة الشرقية العربية حبه لنفسه، يحترم الإسلام احترامه لوالديه، بل ويدافع عنه بكل ما أوتي من قوة، وكثيراً ما كان يقول لي: “المشكلة هي أن الأوروبيين لا يأخذون الإسلام في سياقه، وبالتالي يسيئون فهمه”. ولكنه أضاف بحزن:”تعرفين أني ألاحظ عن قرب مشكلة “التسلف الزائد عن الحد”، أين الإسلام الوسطي؟ أين كتب الشيخ الغزالي ومحمد عبده؟ أكاد لا أجد لها أثراً”.

وقد ذكرتني هذه الحوارات بمقابلتي بالشيخ العباسي، الذي خطب علي منبر مسجد أدوس في المحلة الكبرى لمدة تقرب من الـ 5 سنوات، تلك المقابلة التي قمت بإجرائها في إطار رسالة الدكتوراه الخاصة  بي ومن خلال مساعدة ناصر عبد الحميد- أحد الناشطين السياسيين المصريين-  الذي كان يعرفه تمام المعرفة.  كانت خطب الشيخ العباسي مختلفة عن الخطاب الديني – بكل أنواعه – المستكين بل والمتواكل السائد في مصر، والذي سطَّح سامعيه ولم يدفعهم لقبول هذا “الآخر” المختلف. كان الشيخ العباسي قوي في مواجه الطغيان والقهر والسطحية، ولم يخفْ في الحق لومة لائم، فكان في خطبه يتناول قضايا الفساد والظلم بكل شجاعة وجرأة، وهو الأمر الذي دفعني أن أقابله وبصحبتي ناصر.

صارحت ناصر في قلق ونحن نصعد السلالم للدخول إلي منزل الشيخ المتقاعد جبراً حالياً: “طيب ايه، أنا هطلع أقابله كده من غير إيشارب ولا حاجة؟ فقد كانت هذه أول مرة أقابل فيها شيخ ولا أعرف بالضبط ما الذي يتوجب علي فعله. قالي لي ناصر في تبسم: “يعني… لو غطيتي رأسك يكون أفضل”. ولحسن حظي كنت أرتدي”كوفية كبيرة”، خلعتها ووضعتها علي رأسي ودخلت لمقابلة الشيخ الجليل.

وقد كان حوار رائع، سأظل أتذكره مدي الحياة، لأني شعرت أني في حضرة شخص مختلف، قوي الشخصية والإرادة قبل أن يكون قوي البنيان، شخص جرئ، شخص تخلص من مشاعر الخوف الخانقة التي انتشرت في المجتمع وقتلت أعز ما يملكه الإنسان: كرامته وإرادته الحرة.  فبعد 10 دقائق من المقابلة، آتي لي بالقرآن الكريم وفتحه علي احدي الآيات – وكانت آية 58 من سورة النساء، وطلب مني القراءة، فقرأت: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا”. وسألني هل طاعة أولي الأمر تُعطى مجاناً؟ فقلت له: “لو أنا فهمت صح، أعتقد أن طاعة أولي الأمر مرهونة أو مشروطة بالعدل”. ففرح جداً بهذه الإجابة وأكد لي أن الخضوع للطغيان يتنافى مع التوحيد الذي هو أساس الإسلام، وإلا كيف تدعي خضوعك لله- تعالي- وأنت تسجد لغيره خوفاً؟ وأضاف في حسم وعينيه تلمعان: “من أهم الكلمات، كلمة (لا) التي وردت في ركن الإسلام الأول “لا إله إلا الله”، هذه الكلمة التي قلَّ من يجرؤ اليوم علي قولها في وجه الظلم والقهر، فكانت النتيجة ما وصلنا إليه اليوم”.  وبالطبع، لم يستمر وجود مثل هذا الشيخ الحر كثيراً، فقد جاء الأمر بإقالته، وفي يوم تنفيذ القرار تجمع حوالي 200 مصلي من أتباعه، وقد كونوا دروع بشرية حول منبره لمنع تنفيذ قرار جائر في حق شيخ أحبه شعبه.

ورغم الاختلاف الجذري في الشخصية وفي الانتماء العقائدي بين الأب جيوفني الكاثوليكي، والقس فرجيل البروتستانتي، والشيخ العباسي المسلم، إلا أن الثلاثة  اتفقوا في شئ واحد له مفعول السحر، شئ جعل ما يخرج منهم ينفذ إلي أعماق متلقيه: الصدق والإيمان بالرسالة التي يدعوا كل منهم لأجلها، هذا الصدق الذي ينبع من قلب حر فيحرر من يسمعه ويقبله إن أراد، فهل نريد؟

ـــــــــــــــــــــــــــــ

باحثة الدكتوراة في معهد العلوم السياسية بجرونوبل بفرنسا، وعضو الفريق البحثي لمنتدي البدائل العربي للدراسات

عرض مقالات ذات صلة
Load More By ياسر الغرباوي
Load More In تقارير ومقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

بامكانك الاطلاع على

لقاء مع المفكر المصري الباحث والمهتم بقضايا بناء السلام والمصالحة المجتمعية

يحاوره د.عبد الله مشنون  يُعد الأستاذ ياسر الغرباوي أحد المفكرين المصريين البارزين عل…