الرئيسية المحاضرات والندوات اغزلوا ولا تعزلوا

اغزلوا ولا تعزلوا

0 ثانية
0
0
3,186

ياسر الغرباوي*

في ضحى هذا اليوم الصحو، وأنا متجه لمكتبي، تملكتني فكرة منيرة، ومن فرط جمالها كدت أنسى قواعد المرور وأقطع الطريق مسرعًا وأنا ذاهل عن السيارات المقابلة، ولكن الله ستر، الفكرة هى أن الزمن عاد بي واستدار إلى أماكن الصبا ومدارج الطفولة ومراتع الشباب، إذ كنتُ أقطن في منطقة تمتع بخصائص المدنية ومكارم القرية ونشاط المناطق الصناعية، إذ يتوفر بها سجل مدني ومستشفى وبنك، وعلى أطرافها الأربع توجد المزراع الخضراء، والأشجار الباسقة، وتجمُّعات النخل السامقة. وتقع منطقتها الصناعية في قسمها الجنوبي، حيث تنتشر مصانع الغزل والنسيج اليدوية والميكانيكية.

وعند الأصيل يتجلي جمال المدنية الفاتن راسمًا لوحةً فنية من التناغم والانسجام؛ فعينك تقر برؤية الفلاحين العائدين إلى بيوتهم مصطحبين أنعامهم، يحملون في قلوب رقة الحمل الوَدِيع، ورحمة الأم الرَؤوم، وتُسَر نفسُك وأنت ترى شوارع المدنية الجنوبية تمُوج بزمرات من العمال يتناوبون أوقات  العمل في جد ونشاط. وبحكم وجود بيت العائلة قريبًا من الجهة الجنوبية للمدنية، حيث مصانع الغزل النسيج؛ كنت أمر عليها آناء الليل وأطراف النهار؛ فتكونت لي صلات وثيقة أعتز بها مع العاملين وأصحاب المصانع ورجالات هذه المهنة .

واليوم وبعد انقطاع يُقارب خمسة عشر عامًا عن البلدة وأهلها وجدت نفسي مشغولًا بفهم فلسفة صناعة الغزل والنسيج على غير رغبة وإرادة مني، وكما تعرفون إذا تجاوز المرء الأربعين فإنه يميل نحو التفلسف والتدبر؛ محاولًا أن  يبدو فليسوفًا و خبيرًا بشوؤن الدنيا والدين.

قلت لنفسي: كن عميقًا يا ولد، وركِّز على الخيط الناظم لهذه الصناعة، وبعد طول تفكير، وتقليب للخواطر والأفكار وجدت يا سادة يا كرام أن سر هذه الصناعة قائم على الدمج بين الألياف والأنسجة والخيوط؛ حتى تنصهر في قطعة واحدة متماسكة وجميلة، قد يكون لونها أصفرَ  تارةً يسر الناظرين، أو أحمرَ زاهيًا حينًا فيحبه العاشقون، أو أسودَ قاتمًا أحيانًا حتى يُلبي رغبة المحزونين، وهذا جعلني أتذكر صديقي نقي القلب رقيق الحس “عربي” عامل النسيج، وعم حسين صاحب مصنع السلام المتخصص في إنتاج القماش “البفته”، والأسطى محمود الميكانيكي المشرف على صيانة المكن، فكل هؤلاء هدفهم ينحصر في أن تتشابك خيوط السَّدى مع خيوط اللُّحمة لإنتاج نسيج متحالف ومتشابك، يزيد الناس جمالًا وبهاءً.

وبعد هذه الانعطافة من الذكريات سألت نفسي: لماذا نجحت تلك الفكرة في أن تستولي على وجداني ونفسي صباح اليوم؟ والأخطر من ذلك  أنها نقلتني على بساط الريح  من شاطىء الخليج العربي حيث أُقيم إلى ضفاف النيل حيث تربيت!.

كانت سيارتي قد استقرت في موقفها ووصلتُ مكتبي وفتحت الكمبيوتر، وجاءني عمي “فيرزو” بكوب من الشاي، وزجاجة من الماء البارد، و مع أول رَشْفة من الشاي المُنعنع كانت الإضاءة وتمت الاستنارة، وفهمت القصة، واتضح المغزى، وأصابت الذكرى فؤاد الحقيقة، إذ اكتشفت أنني منذ عقد من الزمن أعمل عامل نسيج  وأنا لا أدري! فأنا أفحص العديد من الأنسجة و الخيوط وأسعي أن أدمج بينها، وأؤلف بين قلوبها وألوانها وأطرافها، وأسعي إلي تطويرها، والانفتاح على الخبراء في تلوينها وزخرفتها، حتى تجد لها زبائن ومحبين يقدرونها ويحافظون عليها، فأنا تماما أقوم بما يقوم به صديقي “عربي” في مصنع النسيج، فهو يتعامل مع خيوط الحرير، وألياف الكَتَّان، ورقائق القطيفة، وأنسجة القطن، حتى تستجيب له طائعة؛ فتشارك في إنتاج قماش جميل يكسو الناس، وأنا مهتم  بدمج نوع آخر من الأواصر والوشائج والروابط الإنسانية التى تعيش على أرض مصر المحروسة، محاولًا إقناعها بأن تكون مجتمعة في ثوب واحد قَشِيبٍ يُسعد المصريين، ويُضيف تجربة إنسانية جديدة للناس قائمة على الانسجام والوئام،  ولكن مهمتى تبدو أصعب من مهمة صديقي عربي؛ فالمكونات التى أحب العمل معها متنوعة بسبب نشأتها؛ فهذا نسيج مسيحي ضارب في عمق التاريخ، وذاك مكون مسلم متسامح، وثالث يهودي ما زال ينافح الواقع والضغوط ليكون مشاركًا في بناء الوطن، وهذا رابع يؤمن بأن تقدم مصر مرهون بأن تكون إسلامية، وخامس يعتقد أن مستقبل المحروسة في أن تكون ليبرالية خالصة، وتلك فئة أخرى لا ترى حلًّا لمشاكل مصر إلا في خيار الاشتراكية، والعمل مع كل هذه الثروة المصرية الكامنة يحتاج صبر نبي، ورحمة أب،  وشجاعة أسد، وأنا كما اتضح لكم  أني عامل نسيج مسكين، ولا أمل لي في النجاح في هذه الرسالة إلا بجهودكم ودعكم وانضمامكم وحبكم لهذه المهنة معى، وقناعتكم بفائدتها؛ فكونوا مع النسَّاجين المتسامحين الذين، يرتقون ثوب الوطن، ويؤلفون بين مكوناته، ولا تتحالفوا مع الذين يحاولون نقض غزل الوطن من بعد قوة أنكاثًا، حينما يعزلون الناس بعضهم عن بعض، فيُنشئون بينهم حجبًا تفصل، ولايبنون بينهم جسورًا تُوَصل.

*مؤسس مركز التنوع لفض النزاعات

 

عرض مقالات ذات صلة
Load More By ياسر الغرباوي
Load More In المحاضرات والندوات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

بامكانك الاطلاع على

لقاء مع المفكر المصري الباحث والمهتم بقضايا بناء السلام والمصالحة المجتمعية

يحاوره د.عبد الله مشنون  يُعد الأستاذ ياسر الغرباوي أحد المفكرين المصريين البارزين عل…