الرئيسية تقارير ومقالات «لا اكراه فى الدين» ما بين امتلاك الحق المطلق والتعصب لأجله

«لا اكراه فى الدين» ما بين امتلاك الحق المطلق والتعصب لأجله

0 ثانية
0
0
1,363

دينا خطاب

لا ينكر انسان عاقل ما فى آفة التعصب والتطرف فى الرأى من بؤس وهلاك قد يدفع صاحبه فى أشد درجاته لارتكاب أفعال لا أخلاقية أو تؤدى به الى سفك الدماء والتورط فى القتل بسبب تعصبه وادعائه الى أنه صاحب الرأى الأوحد الصحيح أو ادعاء امتلاك الحق المطلق وأن ما هم دونه هم ما بين جاهلين أو مخطئين أو خونة يستحقون نهايتهم المأساوية ..

ولا يستطيع أن ينكر كل ذى بال حجم الويلات والدمار التى نشأت من ذلك الفهم والادعاء بامتلاك الحق المبين، عبر التاريخ وما زال يتكرر ومازلنا نعيش بل ونلمس شرراً من نيرانه تلهبنا كل يوم .. ليصبح السؤال أين الخطأ؟ وما هو منشأ الخلل؟

فى العصور المظلمة فى أوروبا وقت أن كانت الهيمنة والسيطرة الفكرية هى لرجال الدين والكنيسة كانت ترتكب مجازر وفظاعات باسم هذا الحق وهو امتلاك الصواب وما دون ذلك هو مخطىء وكافر يستحق العقاب فما كان من أوروبا فى بداية عصر التنوير وبعد ان عاشت تجارب مليئة بالألم والعذاب لسنوات طويلة أن قررت ان الحل ضد هذا التعصب وفى سبيل انهائه هو فى تكذيب الادعاء نفسه وفى انكار وجود الحق المطلق معتقدين بأن نسبية الحق والتسليم بتعدد الرؤى المختلفة والصحيحة فى ذات الوقت – نسبة لصاحبها – لنفس القضية هو الحل السحرى الذى سيجعل الجميع يعيشون فى تناغم وسلام فلا يفرض أحد على الآخر رأيه أو وجهة نظره وليعتقد كل شخص بما يشاء .. متجاهلين بأن هذا المبدأ بنسبية الحق هو ما سيؤدى الى الصراع لا العكس، فالبشر متفاعلون ولا يعيشون فى جزر منعزلة، والايمان بأن كل الآراء المتعددة لنفس القضية صحيحة، لا بد فى لحظة ما عند مواجهة قضية مشتركة أن تصطدم مع بعضها ويصبح لزاماً على أحدهم فرضها على الآخر ..
والحوادث المماثلة على مدار التاريخ كثيرة لا يتسع المجال لذكرها.. ليصبح السؤال هل بالفعل منشأ الخلل هو فى الادعاء الكاذب بوجود المطلق أم فى التعامل مع هذه المعرفة المطلقة ؟!!

ولاجابة السؤال السابق لا يجوز لنا أن نستخدم الأسلوب المتتبع فقط للحوادث التاريخية وقراءة نتائجها للحصول على اجابة نهائية وقواعد عامة بمعنى الانطلاق من الحوادث الفردية للقاعدة العامة أو ما يسمى بالأسلوب الاستقرائى وذلك لأن أغلب هذا الطريق لا يمكن أن يصل الى اجابات بشكل يقينى ودقيق يمكن الاعتماد عليه كقاعدة عامة تنطبق على كل المواقف، بل ينبغى استخدام طريق آخر- القياسى – الذى يبدأ من القاعدة وينتهى بالنتيجة فاذا ثبتت ان القاعدة صحيحة وسليمة يمكن هنا تطبيقها على المواقف المختلفة لاستنباط النتيجة فيها ..وان كانت الاستقراءات لا غنى عنها بعد ذلك بالنظر الى تلك الحوادث واستخدامها للتدليل أكثر على صحة القاعدة بعد أن تم اثباتها ..

والطريق القياسى هنا الذى ينبغى بحثه هو فى طرح السؤال .. ماذا لو أن لا حق مطلق بالفعل؟ واجابة هذا السؤال كافية لادراك التناقض الذى سيقع فيه الانسان اذا كانت اجابته بنعم.. فانكار المطلق يؤدى الى انتفاء كل القواعد العامة والأساسية التى بنيت عليها العلوم مثلاً.. فعدم التسليم بأن هناك قواعد ومسلمات رياضية ينفى علم الفيزياء والهندسة من أساسه .. بل أن المتأمل للفكرة يكتشف أنه لولا وجود اجابات نهائية حقيقية ومطلقة ما شرع العلماء أنفسهم فى البحث وراء علل الأشياء والظواهر الطبيعية.. فهو يبحث ليصل لاجابة أو لحقيقة الشىء، ولو كانت الحقيقة نسبية – أى أن الاجابات والآراء المتعددة كلها صحيحة – لاكتفى باى اجابة منهم ولم يكلف نفسه عناء البحث والتمعن والتدبر لاكتشاف الأدق والأصح والأصوب ..
بل ان نفس الجملة التى تقول (لا حق مطلق) أو أن ( كل الحقوق نسبية) هل هى فى ذاتها مطلقة أم نسبية؟ فلو كانت نسبية فلا ينبغى أن تفرضها على أحد وتجعلها مسلمة بما يعنى ان وجود المطلق وارد .. ولو كانت مطلقة اذن فهذا ادعاء بوجود المطلق وهو ما يناقض الجملة والفكرة المطروحة نفسها .. اذن هى فى كل الأحوال ليست صحيحة والحل هو فى الاعتقاد بوجود المطلق لتستقيم ..
بعد هذا الاثبات الضرورى كان لا بد من العودة مرة أخرى للبحث وراء وماذا عن التعصب ومشاكله؟ فاذا سلمنا بوجود الحق المطلق كيف نأمن شرور من يدعى امتلاكه؟
والاجابة هنا بسيطة وهى فى التفرقة بين كون الحق مطلقاً فى ذاته وبين نسبية معرفتنا به.. بما يعنى ان هناك حقيقة مطلقة لكل شىء ولكن لا بد من اثبات ان معرفتك بها هى مطابقة لهذه الحقيقة .. فاذا سلمت بعدم وصولك لهذه الحقيقة المطلقة الوحيدة بعد فلا حق لديك فى أن تفرضها على الآخرين .. أما فى حال انك وصلت للحقيقة المطلقة بالفعل واستطعت اثبات ذلك بالبراهين العقلية والمنطقية السليمة فالأدعى أن تستخدم نفس هذا الطريق الذى وصلت به لاثباتها لغيرك وبالتالى لا مجال للتعصب هنا …

المشكلة اذن فى التعصب لا فى الحقيقة نفسها.. هذا السلوك الذى لا يمارسه سوى شخصين اما مدعى بغير دليل، أو فاقد للحكمة التى تقتضى ان يعذر من هم مازالوا سائرين على الدرب باحثين عن الحقيقة مثله ولم يصلوا اليها بعد فيحاول مساعدتهم باللين والحكمة بالعرض والتبصير بنفس الطريق فقط الذى سلكه للوصول – أى بالدلائل والبراهين التى ساقته لمعرفة الحقيقة – ثم يترك لهم الفسحة لاكمال الطريق وادراك الحقائق بأنفسهم دون محاولة الاختصار وفرضها عليهم بالقوة أو بالعنف ..

“فلا اكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغىّ” كما قال عزّ من قال، والمتأمل فى الآية الكريمة يكتشف مدى عمقها وصحتها فالدين هنا المقصود به الاعتقاد والتسليم، وهو الاستشهاد الذى يؤكد ان لا عقيدة أو فكرة يمكن زرعها عنوة فى عقول البشر دون استخدام القواعد التى يقبلها هذا العقل والتى سبق ان مارسها العقلاء للوصول الى هذا الاعتقاد، بل هى المجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة …
* جريدة البديل

عرض مقالات ذات صلة
Load More By ياسر الغرباوي
Load More In تقارير ومقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

بامكانك الاطلاع على

لقاء مع المفكر المصري الباحث والمهتم بقضايا بناء السلام والمصالحة المجتمعية

يحاوره د.عبد الله مشنون  يُعد الأستاذ ياسر الغرباوي أحد المفكرين المصريين البارزين عل…