الرئيسية تقارير ومقالات ريشة التاريخ ولوحة المستقبل

ريشة التاريخ ولوحة المستقبل

0 ثانية
0
0
1,705

ياسر الغرباوي

تتلاطم أمواج السياح من كل حدب وصوب وسط ردهات المتحف المصري الفرعوني ،ويمكنك أن تري علامات الاندهاش والانبهار علي وجوه هؤلاء الرواد لما يشاهدونه من تحف أثرية بالغة الجمال متشحة بثياب العظمة والخلود تنبئ عن حضارة ضاربة الجذور في نهر التاريخ وفؤاد الجغرافيا المصرية ،وسط هذه الأجواء المتداخلة بين آثار تأخذ لباب العقول وجمهور تأسره مشاعر الإعجاب والذهول عشت يوما رائعا في المتحف تارة يأسرني تمثال فرعوني بضخامته وشموخه وتارة يتحول بصري لسائح يدور حول تحفة فرعونية محدقاً ببصره وتعلوه قسمات الانبهار والدهشة .

ووسط هذه الأنواء النفسية المتشابكة ضغط علي سؤال أخذ جل تركيزي وتفكيري وهو ما علاقة ماضينا بمستقبلنا؟؟ أو بمعني آخر ما علاقة تاريخ الأمم بمستقبلها ؟؟؟ . فهناك العديد من الأمم المعاصرة تقدمت ولا تملك تاريخاً ضاربا في القدم مثل الولايات المتحدة الأمريكية فعمرها الإجمالي يقف عند حاجز 200 عام أو يزيد قليلاً، وقد عبر عنها الأستاذ هيكل بقوله( إن أمريكا ورثت كثير من الجغرافيا وقليل من التاريخ ) ،وفي ذات الوقت تعاني دول ذات حضارة وتاريخ عريق من مظاهر التخلف والقهر والفقر، فمصر صاحبة أقدم حضارة في التاريخ تعاني أوجاع التخلف والقهر والاستبداد و العراق الذي يملك أقدم دساتير الدنيا يتجرع غصة الفرقة والاحتلال !!

فهل التاريخ يعتبر دافع للتقدم أم عقبة في طريق النهوض ؟؟؟.

التاريخ والجغرافيا والعلوم الإنسانية و الطبيعة كلها مكتسبات بشرية هامة ومفيدة ولكن مدى الاستفادة منها وأثرها علي المستقبل والحضارة وغير ذلك يتمحور في طبيعة علاقتنا بها ،فالأمم التي تضبط منظومتها الحضارية والثقافية والاجتماعية وتنتقي من الأدوات والعلوم والمعارف ما يناسبها ويساعدها علي النهوض سيكتب لها النجاح والازدهار والعكس صحيح. وسنقف في هذا المقال عند هذا السؤال كيف نجعل علاقتنا بالتاريخ تخدم المستقبل ؟؟ فمن أجل رسم لوحة مستقبلية جميلة لابد من استخدام ريشة التاريخ بأساليب مبدعة :

الأسلوب الأول : أن نتواصل مع المحطات الذهبية في التاريخ:

فنطرح مستقبلنا في إطار أنه امتداد للمحطات الذهبية المشرقة في تاريخنا القديم والمعاصر الذهبي وهذا جانب مهم وملهم وحافز للأجيال الصاعدة ولكن إذا توافرت معه رؤية حقيقة للنهوض بالحاضر والمستقبل وتحصلنا علي مكتسبات صلبه في الواقع وإلا تحول هذا التواصل التاريخي إلى مغارة للهروب من التحديات وأسئلة المستقبل وقد عبر الفيلسوف الألماني نتشه عن أولئك القوم الذين يفتخرون بمنجزات الآباء دون أن يقدموا هم للبشرية شيئاً بقوله:(إن الذين يقعون في أسر التاريخ يولدون وشعرهم أبيض )).

الأسلوب الثاني : أن نقطع علاقتنا بالمحطات السوداء في التاريخ : ونحن تتحرك نحو المستقبل من الضروري أن نبتعد عن المحطات السوداء في تاريخنا والتي تحتوي علي الألم والقهر وأخلاقيات التخلف ،فالثورة الفرنسية قامت علي فلسفة القطيعة مع التاريخ الدامي للحروب الطائفية التي دامت قرابة مائة سنة بين طوائف المجتمع الفرنسي وكانت حروب مروعة وبشعة،وكذلك يفعل الألمان مع تاريخ الحقبة الهتلرية، وهو ما يحاول الروس فعله الآن مع تاريخ الحقبة الشيوعية ، ففلسفة هذه الطريقة قائمة علي أن استدعاء المحطات السوداء سوف يقسم المجتمعات ويفرز أشكال جديدة من الكراهية والخصام بين مكونات المجتمع الواحد

الأسلوب الثالث أن تستخدم أسلوب النور والظل : تقوم هذه الطريقة علي أن تاريخ الأمم جمعاء ليس كله ناصع البياض أو كامل السواد ،فكل أمه تمتلك فترات تاريخية ذهبية ومشرقة حققت فيها منجزات حضارية رائدة وأيضا تمتلك فترات تاريخية سوداء أو ما يعرف – بالعلبة السوداء- والتي تشتمل على صراعات داخلية وحروب طائفية طاحنة ، فتقوم بتسليط الأضواء علي الفترات الذهبية في تاريخنا من خلال البرامج والمناهج والأفلام والقصص والقوالب الفنية الأخرى فتبدو ملهمة للجماهير والشعوب، وفي ذات الوقت نهيل التراب علي العلبة السوداء ونقزمها ونتجاهلها وندفعها نحو الظل فتبدو صغيرة الأثر والضرر علي المستقبل .

القاسم المشترك بين هذه الأساليب هو عدم السماح للتاريخ أن يغتال مستقبل الأجيال وأن علاقة التاريخ بالحاضر لا تنحصر في أسلوب واحد هو الميراث الإجباري وإنما يمكن أن تخضع للعديد من العلاقات والأساليب بما يخدم المستقبل .

عرض مقالات ذات صلة
Load More By ياسر الغرباوي
Load More In تقارير ومقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

بامكانك الاطلاع على

لقاء مع المفكر المصري الباحث والمهتم بقضايا بناء السلام والمصالحة المجتمعية

يحاوره د.عبد الله مشنون  يُعد الأستاذ ياسر الغرباوي أحد المفكرين المصريين البارزين عل…