الرئيسية تقارير ومقالات هزيمة الكراهية.. تجربة اليابان في الانحياز للمستقبل

هزيمة الكراهية.. تجربة اليابان في الانحياز للمستقبل

1 ثانية
0
0
3,353

ياسر الغرباوي

العربي الجديد
لليابانيين مقدرة مذهلة في التعامل مع قضايا الانتقام والكراهية، وخصوصاً بعدما تعرضوا للقصف بالقنابل النووية فى هيروشيما وناغازاكي يومي 6، 9 أغسطس/آب 1945، تكشف مسيرة اليابانيين الناجحة كيفية تجاوز ثقافة الانتقام والكراهية، والانحياز للمستقبل على مسار النهضة والتقدم بعيداً عن درب الكراهية والحرب وإشعال المعارك.
يمكن القول، إن أبرز العوامل التى ساعدت اليابانيين، فى هذه الرحلة الشاقة تتمثل فى وجود رؤية واضحة للمستقبل، والتزام دقيق بشروطها، وتوفر الإرادة القوية لإنفاذها على مستويات الدولة، وهيئات الشعب ومؤسسات الأمة كافة، وقد تحققت هذه الرؤية من خلال العوامل التالية:
أولاً: اعتراف اليابان بالهزيمة العسكرية رسمياً وشعبياً فى الحرب وبشكل واضح، إذ لا يوجد هروب من المسؤوليات السياسية والاقتصادية المترتبة على ذلك داخلياً وعالمياً؛ فلم يحاولوا خداع أنفسهم بأن ما حدث هو نكسة مؤقتة، أو خسارة عابرة، أو يعيشوا فى وهم عنوانه “خسرنا المعركة ولكن لم نخسر الحرب”، واستتبع هذا الاعتراف إقالة كل المتسببين فى الهزيمة من مناصبهم
ثانياً: تغيير التوجه الاستراتيجي للدولة؛ فقبل هزيمة اليابان فى الحرب العالمية الثانية كانت تتحرك بفلسفة “التمدد الخارجي” وذلك لصغر مساحة البلد، وارتفاع الكثافة السكانية بها مع قلة الموارد الطبيعة المتاحة والبيئة الجبلية القاسية؛ فلا أمل للتقدم والاستقرار لليابان إلا من خلال السطو على ثروات الجيران مثل الصين، والملايو، وسنغافورة، وكوريا، وبورما، ولكن بعد الهزيمة الساحقة لليابان تم إنتاج رؤية جيواستراتيجية جديدة قائمة على أن مستقبل اليابان مرهون فى التوجه للداخل واستغلال المتاح من الثروات لبناء وطن جديد، وهذه الرؤية الجديدة انحازت للسلام مع الإقليم والنظام العالمي القائم، وهو ما وفر على اليابانيين بذل مزيد من الدماء والدموع والألم فى مسار غير مجدٍ، ولا نافع، وجالب للخسائر، والضحايا والعداء.
ثالثاً: تحمل القيادة اليابانية للمسؤولية التاريخية بشجاعة، حيث أعلن الإمبراطور هيروهيتو، فى خطاب إذاعي بُث في 15 أغسطس 1945، استسلام اليابان للحلفاء، والموافقة على شروطهم القاسية، ولم يجد سبيلاً آخر للمقاومة فى ظل استعداد الاتحاد السوفييتي لمهاجمة اليابان بالتزامن مع هجوم قوات الحلفاء؛ فقد أعلنت مجلة حرب المقر الإمبراطوري فى ذلك الوقت أنه” لم يعد بإمكاننا خوض الحرب مع أي أمل في النجاح، المسار الوحيد المتبقى لليابان هو أن يُقدم مائة مليون شخص ياباني على التضحية بحياتهم ليجعلوا رغبة العدو في القتال معدومة”.
بعد الاستسلام بدأ الأمبراطور هيروهيتو فى إنتاج وتأسيس نظام دستوري وبرلماني قائم على اعتبار الإمبراطور ليس إلهاً، وبذلك يكون قد منح اليابان نظاماً ديمقراطياً قائماً على احترام إرادة الشعب.
رابعاً: تم تطوير مناهج التعليم اليابانية لتتناسب مع الرؤية الجديدة التى أصبحت تؤمن بالتعايش والسلام، وعدم العدوان، وتقطع مع الحقبة التاريخية الإمبراطورية؛ فقد تبنت اليابان فلسفة(النهوض بالسلم) أو بالقوة النظيفة (Soft Power) التي تشجع الحلول الدبلوماسية وليس العسكرية للنزاعات التاريخية الموروثة من خلال التركيز على الطاقة الإبداعية لدى الشعوب والقدرة على التواصل والإبداع؛ وهو ما استدعى إعداد كادر تعليمي جديد ومُدرب ومؤمن بالرسالة الحضارية الجديدة، وفى ذات الوقت تم استبعاد الكادر القديم الذى أصر على تبني خيار الحرب والعنف.
خامساً: حرص الإدارة الأميركية على إبعاد اليابان عن الأيديولوجيا الشيوعية والاشتراكية عبر تقديم الدعم المالي والفني لبناء اليابان بعد الاستسلام، وعدم السماح لها بالانهيار والسقوط فى الفوضى، وتقبل النخبة السياسية اليابانية لهذه الصفقة التاريخية والتعاون معها، يُضاف إلى ذلك تقدير الجنرال دوجلاس ماك أرثر، القائد العسكري العام لقوات الحلفاء في اليابان، للإمبراطور هيروهيتو وعدم إهانته باعتباره رمزاً للأمة اليابانية ساعد اليابان فى التعافي من الأزمة والسقوط فى الفشل، ومكنها من استئناف الصعود الحضاري من جديد وبروزها على صعيد الاقتصاد العالمي.
كل ما تقدم، يؤكد أن نجاح اليابان فى تجاوز فلسفة الانتقام والكراهية يرجع لتداخل العديد من العوامل الدولية والمحلية والإقليمية، وقبل كل ذلك يُعتبر انحياز القيادة اليابانية والنخب الوطنية إلى المستقبل من خلال وضع رؤية جديدة وجاذبة للجماهير بتبني خيار السلام باعتباره منظمومة متكاملة على المستوى الشعبي والتعليمي والإعلامي والدستوري والدفاعي؛ بحيث باتت اليابان من شرقها إلى غربها تعزف لحناً واحداً عنوانه الانحياز للمستقبل وبناء التقدم وتحقيق الرخاء بعيداً عن آلام الماضي ومنغصات الكراهية.

عرض مقالات ذات صلة
Load More By ياسر الغرباوي
Load More In تقارير ومقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

بامكانك الاطلاع على

لقاء مع المفكر المصري الباحث والمهتم بقضايا بناء السلام والمصالحة المجتمعية

يحاوره د.عبد الله مشنون  يُعد الأستاذ ياسر الغرباوي أحد المفكرين المصريين البارزين عل…