الرئيسية دراسات وأبحاث جغرافيا التشيع السياسية.. نحو فهم أعمق

جغرافيا التشيع السياسية.. نحو فهم أعمق

12 ثانية
0
0
1,756

جغرافيا التشيع السياسية.. نحو فهم أعمق*

ياسر الغرباوي

عبر العديد من القراءات والكتابات العميقة التي تتناول أدوار العلوم في نهضة الأمم، وخاصة كتابات الدكتور الراحل/ جمال حمدان وكتابه المبدع شخصية مصر (دراسة في عبقرية المكان) وغيره من فلاسفة علم الجغرافيا، تلمست الطريق نحو إدراك قيمة الأداة الجغرافية في فهم وتفسير الواقع واستشراف المستقبل، وأدركت بشكل أوضح أن للجغرافيا دورا في معالجة مشاكل الواقع العربي والإسلامي واستشراف مستقبله.

فعرفت الجغرافيا الناطقة التي عرفها ستامب[1] بقوله: “إن الجغرافيا في نفس الوقت علم وفن وفلسفة”؛ فهي علم بمادتها، وفن بمعالجتها، وفلسفة بنظرتها، فهي جغرافيا تنتقل بنا من مرحلة المعرفة إلي مرحلة الفكر ومن جغرافية الحقائق المرصوصة إلى جغرافية الأفكار الرصينة التي تخاطب العقل.

وكما عبر الدكتور جمال حمدان [2] عن الجغرافيا بقوله: “إذا كان التاريخ هو ظل الإنسان على الأرض؛ فإن الجغرافيا هي ظل الأرض على التاريخ، فالتاريخ ما هو إلا جغرافيا متحركة” (moving geography in disguise).

فهذا النوع من الجغرافية الحية هي التي أقصد بها الأداة الجغرافية التي تسهم في تسليط إضاءة معرفية جديدة -مع غيرها من العلوم الأخرى- على الظواهر الإنسانية فتجعلها أكثر وضوحا وقابلية للفهم وحسن التعاطي.

فالأداة الجغرافية هامة ومساعدة في فهم الأزمات الحاصلة في العالم العربي والإسلامي، ففهم الصراع الدائر في دارفور وأقاليم السودان الأخرى لا يمكن استيعابه بشكل جيد إلا من خلال أدوات معرفية عديدة من أهمها الجغرافية السياسية والتاريخية للسودان، والنزاع العربي / الإسرائيلي كذلك يخضع لنفس القاعدة.

وعلى مسار الأزمات الداخلية في المجتمعات العربية والإسلامية لابد من الاستعانة بالأدوات المعرفية الجديدة لفهم فلسفة وآليات اشتغال هذه الأزمات.. وعلى سبيل المثال فإن السجال الطائفي الدائر في العديد من المجتمعات العربية لا يمكن التعاطي معه وفهمه واستشراف طرق الخلاص منه من خلال الأداة الدينية فقط، بل لابد من استدعاء أدوات معرفية جديدة من علم التاريخ والفلسفة والجغرافية من أجل رسم صورة واضحة للواقع الطائفي والعرقي، واستشراف نقطة “استئناف الصعود” نحو الاستقرار والتعايش كما يسميها الفيلسوف الألماني كانط.

ولتوضيح دور الأداة الجغرافية في مجال أزمات الاحتقان الطائفي سنركز الحديث في الأسطر القادمة علي دراسة الظاهرة الشيعية في العالم العربي والإسلامي من زاوية علم الجغرافية، وتحديدا من منصة الجغرافيا السياسية لندرك كم الفائدة المعرفية العائدة علينا من استخدام هذه الأداة المعرفية عند التعاطي مع الظاهرة الشيعية.

الظاهرة الشيعية

الظاهرة الشيعية [3] في الساحة العربية والإسلامية تندرج تحت إطار كلي جامع هو ظاهرة الأقليات في المجتمعات الإنسانية؛ سواء كانت هذه المجتمعات إسلامية أو غير إسلامية، فلا تكاد أمة من الأمم على وجه الأرض تخلو من وجود أقليات فيها، سواء كانت هذه الأقلية أقلية لغوية مثل الأقلية الفرنسية في كندا، أم أقلية عرقية مثل الزنوج في الولايات المتحدة الأمريكية، أم أقلية طائفية مثل الشيعة في المملكة العربية السعودية، أم أقلية قومية مثل الأقلية الكردية في العراق، أو الأكراد في تركيا.

وكل ما يتعلق بدارسة الأقليات وتوزيعها وأسباب نشأتها واستشراف مستقبلها يُدرس في فرع الجغرافيا السياسية، فما القيمة المعرفية المضافة لاستخدامنا الجغرافيا السياسية عند دارسة الأقلية الشيعية في العالم الإسلامي؟

أعتقد أن الجغرافيا السياسية [4] توفر عدة فوائد معرفية عند تناولها للظواهر البشرية يتلخص بعضها في التالي:

يمكن من خلالها رسم صورة ذهنية واضحة المعالم والتفاصيل في عقل الباحث والقارئ تجعله ينظر لظاهرة الأقليات في الساحة العربية والإسلامية على أنها ظاهرة إنسانية عامة، تكونت عبر حقب سيولوجية عديدة، ربما تتجاوز جغرافية وتاريخ المنطقة العربية.

بمعنى أن يتفهم أنها ظاهرة عابرة للأمم والحدود وتعتري العديد من الدول والشعوب، وليست حكرا على الساحة العربية والإسلامية فقط، فوفق إحصائيات منظمة اليونيسكو يوجد في العالم نحو 10000 آلالاف أقلية عرقية ولغوية ودينية.

من خلال الخرائط الجغرافية الحديثة التي تجمع بين الأحداث التاريخية والواقع الجغرافي المعاش يمكن متابعة ورصد وتحليل ظاهرة الأقليات بشكل يختصر الوقت والجهد أمام الفاعل السياسي وصناع الرأي العام، فالوجود الجغرافي للأقليات لا يتسم بالثبات والسكون، وإنما يخضع لنظريات التمدد والانكماش وفقا للظروف الاقتصادية والسياسية السائدة في الأقاليم.

فتوزيع الأقليات في دولة البوسنة والهرسك وكوسوفا تعرض لتغيرات هائلة وحادة نتيجة الحروب الأهلية، وتمركز قبائل الهزراه الشيعية في أفغانستان تعرض لتغيرات جديدة نتيجة الحرب الأهلية الأفغانية والاحتلال الأمريكي للبلاد، وللإلمام بهذه التفاصيل لابد من العبور على المحطة الجغرافية وبشكل مفصل، لفهم المشهد السياسي والاقتصادي الناتج عن هذا التمركز الجديد لهذه الأقليات.

وفي هذا الإطار يأتي المرجع الأكاديمي النوعي “أطلس تاريخ الإسلام” [5] للدكتور حسين مؤنس -من إصدارات دار الزهراء للإعلام العربي- كعمل أكاديمي عربي عالي الجودة والكفاءة، يربط بين وقائع التاريخ الإسلامي وحقائق الجغرافيا على الأرض، من خلال الخرائط الجغرافية الدقيقة التي توضح مسار ومآلات الأحداث التاريخية الكبرى التي وقعت في التاريخ الإسلامي القديم والمعاصر.

بين الجغرافيا والتشيع

لكن ما العلاقة إذن بين الجغرافيا السياسية والظاهرة الشيعية؟ أو كيف يمكن الإفادة من هذا المعطى العلمي في فهم طبيعة تلك الظاهرة وحركتها؟ أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال تتحدد من خلال إدراك مجموعة من الحقائق، لعل أهمها:

أولا: أن الميدان الرئيس للجغرافيا السياسية هو البحث في أثر الأرض على السياسية، وأثر الأرض يتسع ليشمل كل مع عليها من الثروات والمعابر البحرية إلخ… في الإقليم، وتشمل أيضا السكان من حيث عددهم وحجمهم وتركيبتهم السكانية والعرقية والدينية، والظاهرة الشيعية من الزاوية الديموغرافية تؤثر في كثير من سياسيات الدول الإسلامية وخاصة التي يشكلون فيها أغلبية سكانية كإيران وأحيانا عندما يكونون أقلية مؤثرة مثل الأقلية الشيعية في جنوب لبنان ووسط أفغانستان.

ثانيا: الجغرافية السياسية تهتم بمستقبل الدول سياسيا وتهتم باستشراف المستقبل بمعنى أنها تتعامل مع الدول كظواهر ليست ثابتة أو ساكنة وإنما تخضع للتمدد والانكماش، والظاهرة الشيعة أيضا ليست ثابتة وساكنة وتخضع للتمدد والانكماش [6]، ونجحت في بعض الفترات التاريخية في إقامة دول وممالك كبيرة، مثل دولة الفاطميين في الشمال الإفريقي والدولة البويهية في العراق، ونجح الحشد الجماهيري الشيعي من خلال رجال الدين وعلى رأسهم الخميني في الإطاحة بنظام الشاه في إيران في العصر الحديث.

ثالثا: الجغرافية السياسية تبرز أهميتها بشكل أكبر في الأماكن الساخنة في العالم، أماكن الصراعات والتنافس بين القوى المهيمنة الكبرى، والأماكن الساخنة في الساحة الإسلامية والعربية الآن تبدو الظاهرة الشيعية حاضرة فيها بشكل من الأشكال، فمعارك حزب الله وإسرائيل في جنوب لبنان، والصراع الأمريكي / الإيراني في المنطقة، والصراع الطائفي في العراق، والاحتقان الداخلي في باكستان، والنزاع في أفغانستان، القاسم المشترك بينهم جمعيا هو وجود الطرف الشيعي المؤثر والفاعل في النزاع ونحن عندما نشير للدور الشيعي في هذه الملفات لا يعني ذلك تقييما لهذا الدور سلبا أو إيجابا فلسنا في محل نقاش وتقيم الأدوار.

رابعا: بعض الخبراء المتخصصين في الجغرافيا السياسية مثل -فرنسوا تويال المنظر الإستراتيجي الفرنسي- يعتبرون أن الشيعة يمتلكون رؤية نهائية للعالم تتمثل في فلسفة انتظار المهدي المنتظر، وما يستتبع ذلك من ضرورة تهيئة المشهد العالمي لخروجه وفق بعض الروايات الشيعية والتي يمكنها أن تؤثر في السياسية العالمية من خلال تبني بعض القادة الإيرانيين العسكريين ومن هم في سدة الحكم لها، والتي ربما تدفعهم للإقدام على الدخول في نزاعات كبرى.

خامسا: الجغرافية السياسية تتمركز فلسفتها على محاولة فهم أسباب الصراع بين الدول والوحدات السياسية والتي غالبا ما تكون صراعات حول الثروات والاستفادة منها وحرية الوصول لها، من هذه الزاوية يمكن فهم ما نادى به الكاتب الأمريكي من أصل إيراني ولي نصر” 7” في كتابه صعود الشيعة، من دعوة الإدارة الأمريكية إلى ضرورة الحوار مع الشيعة بدل المواجهة والصدام؛ لأنهم من الناحية الديموغرافية لهم الغلبة في التمركز حول شريط النفط في الخليج العربي [7] شرقا وغربا.

سادسا: الجغرافيا السياسية تحاول جاهدة استشراف مستقبل النزاعات الساخنة في العالم بين الدول، وما سيتمخض عنها من نتائج، والأماكن الساخنة في العالم العربي والإسلامي الآن مستقبلها محكوم بدرجة من الدرجات بالتقاطع مع الظاهرة الشيعية، فاستقرار العراق والحرب في أفغانستان واستقرار جنوب لبنان وملف الفصائل الفلسطينية وعلاقتها بإيران كلها تدفع في اتجاه أن بعض مشاهد المستقبل في المنطقة العربية والإسلامية مرهونة بحسن التعاطي والتعامل مع الظاهرة الشيعية، سواء تمثلت في دولة كإيران، أو تجسدت في حركة كحركة حزب الله.

ومن خلال ما تقدم يتضح مدى الحاجة للإبحار خلف الظاهرة الشيعية من زاوية الجغرافية السياسية، وضرورة سبر أغوارها طولا من خلال دارسة أماكن النشأة ومسارات الهجرة وأماكن التمركز، وعرضا من خلال دراسة درجة التأثير في المشهد السياسي العام في العالم العربي والإسلامي.

نقلاً عن موقع إسلام أون لاين.

[1] شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان، حمدان، دار الهلال، الجزء الأول

[2] شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان، حمدان، دار الهلال، الجزء الأول

[3] حسب المؤلف الفرنسي فرنسوا تويال في كتابه (الشيعة في العالم) يقدر عدد الشيعة في العالم الإسلامي بقرابة 200 مليون نسمة أي أنهم يشكلون نحو 10% من إجمالي سكان العالم الإسلامي.

[4] محاضرة للدكتور جاسم سلطان، مدخل للجغرافيا السياسية، الدوحة، قطر http://geosg.org/le_3.php?id=92&baab=4

[5] أطلس تاريخ الإسلام، د/ حسين مؤنس، دار الزهراء للإعلام العربي، القاهرة

[6] الجغرافيا السياسية منظور معاصر، إبراهيم الديب، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة

[7] صحوة الشيعة، ولي نصر، دار الكتاب العربي، بيروت

عرض مقالات ذات صلة
Load More By ياسر الغرباوي
Load More In دراسات وأبحاث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

بامكانك الاطلاع على

لقاء مع المفكر المصري الباحث والمهتم بقضايا بناء السلام والمصالحة المجتمعية

يحاوره د.عبد الله مشنون  يُعد الأستاذ ياسر الغرباوي أحد المفكرين المصريين البارزين عل…