الرئيسية تقارير ومقالات الفتن الطائفية بين ثبات المبدأ ومرونة المنهج

الفتن الطائفية بين ثبات المبدأ ومرونة المنهج

8 ثانية
0
0
2,435

ياسر الغرباوي

كلما برزت في الساحة الإسلامية والعربية سجالات طائفية أسرع العديد  من النخبة والعامة إلى استدعاء العبارات التاريخية الشهيرة التي علق بها الأقدمين عند سؤالهم على الظواهر الطائفية التي وقعت صدر التاريخ الإسلامي، ومن هذه العبارات” تلك فتنة قد عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا “، “تلك دماء قد طَهّر الله منها يَدِي فلا أخْضِبُ بها لساني”،” الفتنة نائمة لعن الله من أيقاظها” وهى عبارات تنضح بالعديد من المعاني الدلالية الهامة التي ربما لايدركها من يتفوه بها الآن .

أولها تتمثل في كونها اعتراف  ضمني أن الفتن  الطائفية والمذهبية كامنة في المفاصل التاريخية والفكرية للأمة  والتي تكونت عبر العديد من الأحداث والملاحم كبرى التي وقعت في فترات تاريخية متفاوتة  ومن أهم هذه الأحداث ما وقع بين الصحابة الكرام من معارك مثل صفين وكربلاء والحرة والتي شكلت البدايات التاريخية للمشكلة الطائفية في التاريخ الإسلامي . وهذا يرد على المؤرخين الذين بالغوا في نفى الأحداث التي وقعت بين جيل الصحابة حتى يكاد يوصلون إلى نفى وقوع هذه المعارك أصلا وإرجاع كل ما وقع من معارك بين الصحابة الكرام إلى أطراف وشخصيات خارجية على الرغم من وجود جدل تاريخي حول وجودها من عدمه في تلك الفترات- فمثلا شخصية- عبدا لله بن سبأ – مازالت حتى الآن محط نظر واختلاف بين المؤرخين بين من ينفى وجود هذه الشخصية أصلا وبين من يؤكد وجودها ويحملها مسئولية قتال الصحابة لبعضهم البعض !!- وأنا شخصياً أتعجب من هذا الرأي الذي يجعل هذا الرجل بارع القدرات والملكات بحيث انه ينجح في دفع حاملي رسالة الإسلام الأوائل الصحابة نحو القتال والمعارك وكأنهم دومي في يده !! .

المعنى الأخر: في هذه العبارات أنها اعتراف بقابلية الفتن للتفجر والاشتعال عند توفر الظروف الاجتماعية والسياسية والتاريخية المناسبة وبالتالي علاجها بإستراتيجية المسكنات غير كافي في القضاء عليها.

الحلول التاريخية:

 ربما مثلت عبارة” تلك فتنة قد عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا” حلاً مناسباً للمشاكل الطائفية في تلك الفترة التاريخية التي ولدت فيها  وربما كانت تعتبر تسوية إجرائية  ناجحة في زمانها ووقتها لتسكين الجرح الطائفي  في الأمة .

ولكن في عالمنا المعاصر اليوم هل ُيمثل استدعاء هذه العبارات – التراث – حلاً مناسبا  لقضايانا المعاصرة الخاصة بإدارة ملف التنوع الإجتماعى الداخلي ؟؟؟.

 بداية للإجابة على هذا السؤال  لابد أن نفرق بين استخدام هذا النوع من العبارات كمبدأ للتعاطي مع المشاكل الطائفية وبين كونها منهج يخضع لظروف المكان والزمان، فالمبادئ تتسم بالخلود والبقاء والمناهج تتصف بالتجديد والتغير، فميدان النجاح في عالم المبادئ يميل نحو الثبات عليها  والتضحية من أجلها فكلما زادت قدرة أمة من الأمم في الثبات على مبادئها كلما نالت تقدير واحترام  الآخرين ، بينما النجاح  في عالم المنهاج يخضع لمدى قدرتها على توفير الحلول للأزمات والإحتقاتات المعاصرة في جسد أي مجتمع من المجتمعات البشرية .

  ومن هنا يأتي الخلل عندما يعتبر البعض أن هذا النوع من- استدعاء التاريخ والتراث- والذي يتجسد في شكل عبارة معروفة يقع في خانة المبادئ التي ينبغي عدم  تجاوزها والقفز عليها عند تناول الأحداث الفتنوية، فإذا بادر البعض بطرح بعض الإضاءات المعرفية الجديدة على الخلاف السياسي الذي وقع  بين الصحابة  وما نتج عنه  من مدارس سياسية وفقهية قديمة ومعاصرة

.سارع البعض إلى إطلاق الطلقات تحذيرية– العبارات التاريخية – لمنعه من هذا الفعل الذي في نظرهم يتجاوز مبادئ الأمة في التعامل مع القضايا الطائفية ، وبالتالي نتج عن هذا  أن الساحة الثقافية الإسلامية – خاصة السنية- تكاد تخلو من الكتابات الرصينة التي توفر لنا قراءة سيولوجية جديدة للأحداث الفتنوية القديمة والمعاصرة .

الشعور الواهم

ونتج أن هذا الخلط في الثقافة العربية  بين ماهو مبدأ وماهو منهج  في التعاطي مع الأزمات الاجتماعية المختلفة أن نمى شعور لدى البعض أننا نمتلك من البرامج والمبادئ ما يكفى للتعامل مع الأحداث المعاصرة فكلما طرقت قضية جديدة مسامعنا هرع البعض إلى استدعاء التاريخ للإجابة على أسئلة المستقبل متغافلين عن طبيعة الزمان والمكان الذي ولدت فيه هذه الحلول والإجابات التاريخية واختلاف المكان والزمن الذي يريدون أن يسقطوها عليه.

 ولذلك عبر الفيلسوف الكبير- نتشه- عن الذين يقعون أسرى الحلول التاريخية والتراثية ويتغافلون عن طبيعة الواقع المعاصر الذي يعيشون فيه، المستقبل الذي يحلمون به بأنهم    ” أناس يولدون وشعرهم أبيض “

فقضية حقوق الغير المسلمين في المجتمع المسلم  في ظل الدول القومية المعاصرة  القائمة على أساس الجغرافيا تختلف جوهريا عن حقوق غير المسلمين في ظل امبرطورية إسلامية قائمة على أساس الدينية ،فاستدعاء حلول من الزمن الإمبرطورى لعلاج مشكلة في دولة قومية أرى فيه مجانبة للصواب بشكل كبير ، والمخرج النهائي لهذا الخلط المعرفي الجسيم تمثل في أن الساحة الفكرية الإسلامية والعربية أصبحت من أكثر المناطق التي  تفتقر إلى أدوات وبرامج فعالة تدفع نحو إلى حسن إدارة ملف التنوع الإجتماعى الداخلي وتجعل منه نقاط تميز وقوة للمجتمع،

عكس الكثير من الأمم المعاصرة التي تمتلك العديد من المنهاج الإجرائية التي تعالج بها الأزمات الطائفية والعرقية واللغوية والقومية الموجودة عندها بما يضمن لها بشكل كبير عدم بروز اى حس عنصري وإقصائي يؤثر على وحدة النسيج الإجتماعى لها، وعندنا في هذا المسار تجربة جمهورية جنوب أفريقيا  في التغلب عن ظاهرة الفصل العنصري التي عاشت فيها عقود من الزمن ،والتجربة أيرلندا الشمالية التي تطبيق برنامجها التربوي( نحو تجاوز الطائفية) الذي يسعى لإخراج أجيال تؤمن بفكر التعايش والتعاون وقبول الأخر المخالف في الدين والعرق واللون .

الدور المطلوب

اعتقد أن الأجيال الصاعدة من النخب وصناع الرأي العام والساسة والعلماء والمراجع والمراكز البحثية في العالم الإسلامي ينبغي أن يخطو خطورة أخرى أقوى وأمضى في اتجاه معالجة الفكر الفتنوي من جذوره عبر عده وسائل منها :

1-ضرورية التفرقة الواضحة: بين ماهو مبدأ وماهو منهج عند تعاملهم مع ملف التنوع العرقي والمذهبي للأمة وبمعنى أخر إدراك المسافة الفكرية  مابين هو نص مقدس واجب الإتباع  وبين ماهو ممارسة التاريخية- تمثل فقط تجربة بشرية يمكن الإستفادة منها بحكم أنها خضعت للعديد من عوامل التي أثرت فيها مثل  المكان والزمان وطبيعة النظام السياسي والإجتماعى السائد في تلك الفترة-  فليست كل ممارسة التاريخية تعد شرعا واجب الإتباع حتى لو وقعت من كبار الخلفاء والعلماء.

2- إبداع مناهج وبرامج تربوية وسياسية واجتماعية الخ ، لاتتصادم مع مبادئ الأمة الكبرى، بهدف حرمان الفتن الطائفية من التمدد والانتشار في الجسد الثقافي والفكري للأمة وبما يتناسب وطبيعة كل عصر ومصر ومستفيدة من التجربة التاريخية الإسلامية التي أبدعت في زمانها ووقتها حلولا جعلتها في زمانها منارة للتسامح والتعايش وسط الإمبراطوريات القائمة ساعتها وتفوقت على غيرها من الأمم وجسدت في دنيا الناس قيم التسامح والتعايش والتعاون حتى أن العديد من الباحثين يعتبر أن معاني التسامح وقبول الأخر  انتقلت إلى الجسد الأوربي الذي أنهكته الحروب الطائفية عبر واحة التسامح الإسلامية الوارفة الظلال في الأندلس .

ولكن ماهى طبيعة  البرامج والمناهج الكفيلة بالقضاء على الفكر الفتوى ؟؟ وماهى تجارب الدول معها ؟؟ هذا ما سنتاوله في المقالات القادمة بإذن الله

عرض مقالات ذات صلة
Load More By ياسر الغرباوي
Load More In تقارير ومقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

بامكانك الاطلاع على

لقاء مع المفكر المصري الباحث والمهتم بقضايا بناء السلام والمصالحة المجتمعية

يحاوره د.عبد الله مشنون  يُعد الأستاذ ياسر الغرباوي أحد المفكرين المصريين البارزين عل…