الرئيسية تقارير ومقالات الطائفية الجديدة: غربة المسيحيين (١-٢)

الطائفية الجديدة: غربة المسيحيين (١-٢)

0 ثانية
0
0
1,087

بقلم   د.عمرو الشوبكى

د.عمرو الشوبكى
د.عمرو الشوبكى

دخلت مصر مرحلة جديدة من الاحتقانات الطائفية لم تعرفها من قبل، وبدت تلك العلاقة الطيبة التى ربطت بين المسلمين والمسيحيين تشهد توترات حقيقية، وأصبحنا أمام طائفية مجتمعية جديدة تختلف عن تلك التى شهدها المجتمع المصرى فى عقدى الثمانينيات والتسعينيات حين كان العنف الطائفى مرتبطاً بجماعات دينية مارست إرهاباً بحق الدولة والمسيحيين، وأصبحنا الآن أمام طائفية مجتمع وشارع وغياب دولة.

والمؤكد أن أزمة «الطائفية الجديدة» وخطورتها تكمن فى أنها واقع مجتمعى معاش لا تخفيه قبلات الوحدة الوطنية، التى اعتدنا أن تكون مدخلنا للتعامل مع موضوع العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، متجاهلين تحولات حقيقية حدثت على الأرض وتتحمل مسؤوليتها أولا الدولة والخطاب الإسلامى، ثم كثير من ردات الفعل المسيحية.

والحقيقة أن الغياب شبه الكامل للدولة عما يعرف بتنظيم المجال العام وتطبيق القواعد القانونية الصارمة على كل خطاب يكرس الطائفية وينشر الكراهية، كان سببا رئيسيا وراء انتشار خطاب دينى شكلى سرعان ما تحول إلى أحد روافد الطائفية الجديدة.

وتعرض المجتمع المصرى لهجوم رجال دين ودعاة جدد، استوفى على أثره كل مظاهر التدين، فانتشر الحجاب وارتدته الغالبية الساحقة من سيدات مصر، وتوقف الموظفون عن العمل وقت صلاة الظهر، وتبارت الزوايا فى اختيار مؤذنين للصراخ خلف الميكروفونات وليس للأذان، وفشلت الأوقاف فى فرض مشروع الأذان الموحد، تواطئاً مع التدين الشكلى وإيثاراً للسلامة، رغم أن توحيد الأذان كان سيعيد له جماله وسكينته التى بثها لقرون فى نفوس المصريين.

وبات من الصعب أن تذهب لمتجر أو تركب سيارة أجرة خاصة أو عامة، ولا تضطر إلى الاستماع إلى شريط لشيخ سلفى أو داعية «نيو لوك»، وحتى مصر للطيران استلهمت تجربة مصاعد البيوت والمصالح الحكومية، وصارت تفرض عليك الاستماع لدعاء الركوب، رغم أنه سيكون أمرا رائعا أن يحفظ المسلم فى سره هذا الدعاء ويقوله دون صخب أو ضجيج، وأن يعتبر أن تنظيف مدخل عمارته من القمامة أهم من دعاء الركوب، عملا بالمبدأ الإسلامى «النظافة من الإيمان».

وصار طبيعيا أن نرى مواطنين ورجال أمن يقرأون القرآن الكريم أثناء عملهم أو بالأحرى بدلا عن عملهم، وهم معتقدون أنهم بذلك يقتربون من الله، وليس عبر التفانى فى العمل، وقراءة القرآن فى المنزل أو المسجد.

وانتشرت أيضا أشكال مختلفة من البرامج الدينية شديدة السطحية، بثت قيماً أبعدت المصريين عن كل ما له علاقة بالعقل، بل حتى بقيم الدين، وبثت كراهية ولو مبطنة بحق كثير من الأقباط.

والمفارقة أن جمهور التدين الشكلى لم يفكر مرة واحدة فى الخلل الذى جعل المصريين يستوفون كل هذه المظاهر الدينية، وفى نفس الوقت فشلوا فى إحداث أى تطور سياسى أو اقتصادى، بحيث بدا وكأن هذا التدين الشكلى جاء من أجل أن يصرفهم عن الاهتمام بأى قضية جادة أو ذات معنى.

وعاد الحكم واستوفى باقى الشروط، فأغلق أى فرصة للعمل العام، فلا توجد أحزاب فاعلة، ولا منظمات مجتمع مدنى ولا نقابات مؤثرة، ولا حياة ثقافية أو فكرية حقيقية، فمدد الناس مشاعرهم الدينية الطبيعية بصورة غير صحية، واتجهوا نحو التدين الشكلى واللوثة الكروية وحتى النميمة حول أخبار الممثلات والراقصات.

ونجحت هذه الأجواء فى بث ثقافة جديدة فى عقول الناس ألهتهم عن المشاركة فى القضايا العامة، فقلَّ الإنتاج وزاد الفساد والكذب وجرائم القتل، وانتشر التحرش الجنسى، وملأت القمامة شوارع مصر وانهار الأداء العام، واهتممنا بكأس أفريقيا أكثر من اهتمامنا بأرواح ١٠٠٠ مصرى ماتوا منذ أكثر من أربعة أعوام، تماما مثل اهتمامنا ببطولة أفريقيا فى طبعتها الأنجولية بصورة أنستنا أرواح ٧ مواطنين قتلوا بدم بارد فى ليلة عيد الميلاد.

لم يتخيل كثير منا شعور المسيحيين حين وجدوا أنفسهم فى مجتمع تأسلم تماما فى كل ما هو شكلى، ومارس استبعاداً مبطناً أو صريحاً بحق المسيحيين، وفى نفس الوقت فشل اقتصاديا وسياسيا فى تحقيق أى إنجاز يساعدهم على تحمل المناخ الثقافى الطارد والمنغلق.

وحين يقارن البعض التمييز الواقع على المسلمين فى أوروبا بنظيره الواقع على المسيحيين فى مصر، سيجد الفارق فى أن الغالبية الساحقة من هؤلاء المسلمين ليسوا على استعداد لأن يغادروا البلاد الأوروبية ويعودوا إلى بلدانهم الأصلية، لأنهم يعيشون فى ظل وفرة اقتصادية وفى رحاب دولة قانون ونظام ديمقراطى، فكان طبيعيا أن يتحملوا بعض صور التمييز التى تجرى بحقهم، أما المسيحيون فى العالم العربى فلا يوجد ما يخفف من وطأة هذا التمييز بإنجاز اقتصادى أو علمى أو ديمقراطى، فصار غير محتمل وقابلاً للانفجار.

لا أحد يهتم بما إذا عاش كأقلية عددية فى بلد ما هو شعوره إذا وجد الأغلبية يتحدثون عن عظمة دينهم ويمارسون فى الواقع ما هو ليس له علاقة بأى دين، ولا أحد يفكر فى معرفة أثر صور التمييز اليومية (ولو بالكلمة أو الإشارة) التى تجرى فى المترو ووسائل المواصلات العامة بحق الفتيات غير المحجبات لأنهن غير مسلمات أو حتى مسلمات قررن ألا يرتدينه، ولا ما يجرى فى الجامعات والمدارس الحكومية وفى أماكن العمل من صور مختلفة من التمييز المعنوى والمادى لا يصاحبها أى إنجاز أو تقدم علمى.

من المؤكد أن هناك مناخاً ثقافياً إسلامياً طارداً ومنغلقاً دفع المسيحيين نحو الغربة والعزلة، ولكن من «استلموهم» خلف أسوار الكنائس أو عبر خطاب بعض جماعات أقباط المهجر كان بدوره خطابا طائفيا ومنغلقا لا علاقة له بالديمقراطية أو المواطنة، واعتبر قضيته الأساسية هى كراهية الإسلام والمسلمين.

لقد شهدنا فى الحصيلة النهائية مناخا «إسلاميا» عشوائيا وجاهلا، وغير منجز ولا منتج، وخطابا مسيحيا متعصبا، ظهرت قدرته فى التواصل مع قوى الكراهية العالمية تجاه الإسلام والمسلمين، بصورة وضعته فى مكان أقوى فى مواجهة دولة المواءمات الحالية.

وتراجع الخطاب المدنى الديمقراطى فى الجانبين: المتصالح مع الدين، والمتقبل لمبادئ الإسلام العامة وقيمه الحضارية والثقافية.

إن كل الجماعات التى نجحت فى مواجهة التمييز الذى تعرضت له، كانت حين تجاوزت الانغلاق على الذات والطائفية المضادة وأسست خطاباً مدنياً مثّل إلهاما لكل فئات المجتمع، فلو أن أوباما توقف عند ما حصل لآبائه منذ نصف قرن، وظل يولول على اضطهاد البيض للسود الأمريكيين لما أصبح رئيس جمهورية.

هل يمكن استعادة أغلب المسيحيين مرة أخرى إلى داخل الجماعة الوطنية والعمل المدنى؟ وكيف يرى المسلمون المسيحيين بعد كل هذه التحولات؟! هذا هو موضوع الحديث القادم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلاً عن جريدة المصري اليوم ٢١/ ١/ ٢٠١٠

عرض مقالات ذات صلة
Load More By ياسر الغرباوي
Load More In تقارير ومقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

بامكانك الاطلاع على

لقاء مع المفكر المصري الباحث والمهتم بقضايا بناء السلام والمصالحة المجتمعية

يحاوره د.عبد الله مشنون  يُعد الأستاذ ياسر الغرباوي أحد المفكرين المصريين البارزين عل…