الرئيسية صدى الأحداث مانديلا لم يُوحى إليه

مانديلا لم يُوحى إليه

0 ثانية
0
0
2,183

ياسر الغرباوي

الإهتمام العالمي برحيل الزعيم الأفريقي المُلهم نليسون مانديلا كان واسع المدى وعريض التأثير على المستوي الرسمي والشعبي؛ فقد تسابق رؤساء الحكومات ومسئولى المؤسسات العالمية على حضور مراسم الجنازة والدفن الخاصة بمانديلا، وقد تابعت الجماهير العربية هذا الحدث بشغف بالغ لأن قصة نجاح مانديلا فى العبور بقومه من الشقاق إلى الوئام والوفاق، ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن القطيعة إلى الوصال تتطابق مع آمالهم وتطلعاتهم لمستقبل بلدانهم المُكلومة التى تشتاق إلى نسمة من التسامح، وتحن إلي غمره من فيض العدالة الإجتماعية، وتحلم  بغد أفضل تسود فيه المساواة والعدالة .
مانديلا ليس نبياً
الاهتمام الكبير بسيرة ومسيرة القائد مانديلا يمكن الإستفادة منه فى بناء فضاء إجتماعي جديد فى المنطقة العربية والإسلامية قائم على التسامح، وإحترام الأخر،وقيم المواطنة ومتجاوز لضيق الأيديولوجيات الوطنية الخانقة، ومُتعالي على تطرف الأيديولوجيات الدينية القاتل؛ ولكن هذا يتوقف على فلسفة التعاطى مع تجربة مانديلا النضالية، فما هو مطروح  ومُروج  حول  سيرة الرجل فى المنطقة العربية يتسم بالسذاجة والضحالة التى تٌغلق مسام العبرة والدرس أمام الأجيال الصاعدة ؛ فالإعلام العربي جعل مانديلا نبياً !!!أو على أقل تقدير قديساً خارق القدرات،واسع الكرامات ، يحي العظام وهى رميم،فقد استطاع فى نظرهم أن ينقل جنوب أفريقيا نحو المسار الديمقراطي  بضربة واحدة بيمينه المباركة، فتحول تعصب البيض إلى تسامح وقسوتهم إلى رحمة، وظلمهم إلى عدل كما فعلت عصا موسي تماما مع البحر الهائج!! .
المعالجة الخاطئة
وهذا التناول المُخل والمجافى للحقيقة لن يُساعدنا على فهم  فلسفة نضال الأغلبية السوداء والأقليات المُهمشة ضد سياسة الفصل العنصري التى إنتهجها الرجل الأبيض فى هذا المنطقة. فقصة مانديلا بمثابة حبة واحدة فى عِقد النضال الأفريقي الممتد والمتواصل منذ أن وطىء الإستعمار الأوروبي الإستيطاني شواطىء جنوب أفريقيا بقدمه.
فمن الخطأ عند تناول تاريخ الأمم والشعوب المُناضلة حصر مسيرة النضال فى سيرة أحد المناضلين وإختزال تضحيات المقاتلين فى معاناة أحد المرابطين؛ فمانديلا  ما هو إلا قمة بارزة فى جبل مقاومة شعب جنوب أفريقيا الأسود لعدوان الرجل الأبيض على ثروات ومُقدرات هذا الوطن الجميل، ونحن عندما نعرض للشباب قصة  كفاح مانديلا فى إطار يُقارب الواقع والحقيقة يكون حجم العبرة والتأسي والإستفادة أكبر بكثير من الترويج لسيرة إنسان خارق القدرة ينهي مشاكل بلاده السياسية والإجتماعية بتعويذة سحرية يُتمتم بها وقت الغروب.
شركاء النجاح
فقد نجح مانديلا بفضل العديد من الشركاء والداعمين له فى الداخل والخارج و وفيما يلى عرض لأبرز المحطات التى ساعدته فى التقدم نحو تحقيق أهدافه السامية:
أولاً: نضال رجال ونساء المؤتمر الوطنى الأفريقي الذى استمر فى الكفاح ضد نظام الفصل العنصري وبكافة الوسائل المتاحة، فقد جربوا حرب اللاعنف التى دعى لها غاندى، ودفعتهم وحشية ممارسات حكومة الفصل العنصري إلى استخدام العنف، ثم لمّا ترنح النظام العنصري وقرر العدول عن عدوانه تحول النضال إلى الكفاح الديمقراطي والدستوري كل ذلك تم على مدار قرابه عشرين عاماً بينما كان مانديلا ورفاقه يقبعون فى غياهب السجون .
ثانياً: انحياز الرئيس الأبيض  فريدريك دكلارك للخيار الديمقراطي وفتحه للطريق أمام سريان عجلة العدالة الإنتقالية لتجهيز المشهد السياسي لمشاركة الجميع فى إدارة البلاد سياسيا دون تهميش أو إقصاء لأحد،وقد اتخذ دكلارك هذا القرار الشجاع على الرغم من معارضة الأقلية البيضاء المُهيمنة على مقاليد الأمور الإقتصادية والسياسية والأمنية ؛ولذلك حاز على جائزة نوبل للسلام مناصفة مع مانديلا ،وقد علق أحدهم على هذه النقطة بقوله “لولا دكلارك ماكان مانديلا”
ثالثاً: عمل لجان فض النزاعات وصناعة السلام فى الفترة من 1991 إلى 1994 فى كل مدن وقري جنوب أفريقيا لمعالجة الجروح الإجتماعية الغائرة بين السود والبيض عبر الحوار والتواصل والتدريب وحصار مناطق التوتر وإعادة تأهيل الشرطة لتكون خادمة للشعب،و تم ذلك عبر المصالحة والإعتذار ولولا عمل هذه اللجان  لما نجح تسامح مانديلا فى أن يتجسد واقعا فى دنيا الناس
رابعاً: انحيار المؤسسات الإجتماعية والدينية الفاعلة فى المجتمع وبخاصة الكنائس لرؤية مانديلا فى ضرورة  الإنتقال من مرحلة التاريخ الدامى إلى رحابة المستقبل بإطلاق حملة “الحقيقة مقابل المسامحة” ومن أبرز الأسماء التى دعمت هذه الحملة القس ديزموند توتو كبير أساقفة جنوب أفريقيا السابق الحائز على جائزة نوبل للسلام العام 1984 .
كانت هذه بعض العوامل والمساهمات التى مكنت مانديلا من نحت تجربته  العالمية والتى أعتقد أنه بدونها ما كان ليصل إلى أهدافه السامية والرائعة ، ونحن عندما نتكلم عن مانديلا كترس فى ماكنية نضال الأغلبية السوداء لنيل حقوقها لانقلل من عظمة وقدرات الرجل وإنما نفتح العيون لضرورة العمل فى فريق متناغم وفق رؤية حاكمة تتسع لأكبر عدد ممكن من مكونات الوطن حتى نعبر نحو فضاء الحرية والمساواة والعادلة.
*مدير مركز التنوع لفض النزاعات

عرض مقالات ذات صلة
Load More By ياسر الغرباوي
Load More In صدى الأحداث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

بامكانك الاطلاع على

لقاء مع المفكر المصري الباحث والمهتم بقضايا بناء السلام والمصالحة المجتمعية

يحاوره د.عبد الله مشنون  يُعد الأستاذ ياسر الغرباوي أحد المفكرين المصريين البارزين عل…