الرئيسية تقارير ومقالات لا تفتحوا علبة العفاريت

لا تفتحوا علبة العفاريت

0 ثانية
0
0
1,370

ياسر الغرباوي

لا تفتحوا علبة العفاريت

هناك العديد من الدول والمجتمعات التي تتمتع بتاريخ قومي ضارب في القدم وحافل بالنضال والأبطال،وهذا ممتاز لكنه لا يعد مسوغاً كافياً لتبوء هذه الدول مكاناً متقدماً في وسط الأمم المعاصرة، فالتاريخ العميق الضارب في فؤاد الجغرافيا هو أحد الأدوات الفاعلة في استلهام الروح الوطنية لو استخدم بشكل محترف بحيث يصبح تاريخاً حافزاً للأجيال وليس تاريخا كابتاً؛ فتاريخ الشعوب مثل المواد الخام التي وزعها الله في أرضه فتري شعوباً تُحسن استغلالها و تخرج منها سلعا تملأ خزائنها بالمال الوفير،وأخري لا تحسن فيها صنعاً .

فما هي فائدة التاريخ للأمم والشعوب ؟؟ :

لتاريخ الأمم ثلاث فوائد هي:
الحفاظ على الروح الوطنية الجامعة للشعوب وتحفزها وبعث الحياة فيها.
رفع الروح المعنوية للشعوب في أوقات الانكسار عبر استلهام  تحديات الماضي التي تجازوتها الشعوب.
تمثل سيرة الأبطال الأوفياء للوطن والقيم العليا لتربية النشء عليها.

وكما أن للتاريخ هذه الفوائد في حياة الأمم  عندما ُيستخدم كأداة  للعبور نحو المستقبل، ،فإن للتاريخ أيضاً مثالب شتي عندما ُيساء استغلاله وعرضه فيصبح أداة فعالة لاغتيال مستقبل الأمم والشعوب وصخرة عاتية تتحطم عليها طموحات وآمال العباد والبلاد.!!

لكن كيف يحدث ذلك ؟؟

تاريخ الأمم والشعوب والجماعات به محطات مضيئة وناصعة وبه محطات مظلمة (الصندوق الأسود)؛ فكما أن التاريخ يحوي قصص البطولة والفداء يحمل أيضا قصص الخيانة والغدر، وكما يحوي قصص الانتصار والازدهار يحوي أيضا وقائع السقوط والانكسار.

لكن الأمم المتطلعة للمستقبل والمستمسكة بأهدابه تتبع إستراتيجية تسليط الضوء علي المحطات المضيئة (بواعث الأمل ) وذلك من خلال حسن عرضها علي الأجيال عبر المناهج الدراسية، والفنون المسرحية والسينمائية، والرحلات السياحية، وغيرها من الأنشطة التي تدعم هذه الإستراتيجية.

بينما الأمم التي لا تقوى علي الحلم وتعيش وفق ما ُيتاح لها من فتات الأمم غالباً ما تفتح الصندوق الأسود في تاريخها الذي – يخرج  العفاريت-  التي تقوض مستقبلها في القريب العاجل، وبالتالي لا تحسن صنعاً في تعاملها مع تاريخها ولا توجهه نحو المستقبل و تقع في العديد من الأخطاء المتعلقة بتاريخها ومنها :

تبرز في ساحاتها الفكرية إصدارات لكُتاب لا يدركون مدارس التاريخ الفلسفية فيعرضون التاريخ من زاوية واحدة فقط ؛ تفسره أحداثه كلها وكأنها تدور علي  رحى العقيدة والدين فقط ، مهملين العوامل الاجتماعية والسياسية والسيولوجية التي تؤثر في الوقائع، مثل إرجاع انتصارات البطل صلاح الدين علي الصليبين إلي نقاء عقيدته وإقامته لشعائر الدين دون الإشارة للعوامل الأخرى المؤثرة وهذا تسطيح ُيخل بحقائق الأمور. وكذلك اعتبار انتصار العرب علي إسرائيل في 6 أكتوبر راجع إلي إيمان الجنود وهتافهم بشعار الله أكبر فقط بغض النظر عن الجهود الأخرى التي بُذلت لتحقيق النصر.

يتم عرض تاريخ الأمة والدولة وكأنه خاص بالأغلبية الاجتماعية السائدة دون غيرها من المجموعات الوطنية المشاركة في الحدث التاريخي مثل عرض التاريخ الإسلامي وكأنه خاص فقط بالسنة دون غيرهم ونسبه كل انتصار تحقق إليهم وإحالة كل هزيمة  إلي غيرهم  خصوصا الشيعة ووصفهم بالخيانة والعمالة بحكم عام مطلق ، والأخطر من ذلك إشعال معارك في الحاضر اعتمادا علي تفسير متعسف لوقائع للتاريخ القديم مثل ما يقع من حروب طائفية  بين السنة والشيعة في العراق،والتي يرجع سببها إلي الصور النمطية في عقول المتعصبين من الطرفين والتي أنتجت ذاكرة موتورة؛ يرى فيها الفريق السني أن كل الشيعة أحفاد بن العلقمي، يرى فيها الفريق الشيعي أن كل السنة هم أحفاد قاتل الحسين رضي الله عنه .

الخلط بين وقائع التاريخ والوحي المقدس، ويتجلي هذا الأمر بشكل واضح في الأمم والشعوب التي تتمتع بديانة سماوية لها شرائع تتفاعل معها المجتمعات وفق أفهامها ومدارك عصرها التي تعيش فيها، وينتج من هذا التفاعل تراثا تاريخيا في شكل مجموعة من القوانين والمفاهيم التي تخضع لمنطق عصرها وهذا لا غبار عليه،وإنما الخلاف يحدث عندما يأتي فقيه معاصر أو مؤرخ غير حصيف فيعتبر نتاج هذا التفاعل بين نصوص الوحي وأفهام البشر في عصر من العصور هو وحي واجب الإتباع والتقديس  مثله مثل نصوص الوحي ذاته ؛ فيُقيد أفهام الأجيال الناشئة بمدراك عصور قد خلت . ويظهر هذا فيما يتعلق بالاضطراب المعرفي المعاصر في عقول بعض الفقهاء حول مفهوم المواطنة وعلاقته بما يسمي بأحكام أهل الذمة في الفقه الإسلامي القديم.

ومن خلال ما تقدم يتضح لنا أن التاريخ  سلاح ذو حدين ينفع ويفيد في تجاوز التحديات عندما يُحسن التعاطي معه في اتجاه التبشير بالمستقبل وتجاوز تحديات الحاضر، وفي ذات الوقت يمكن أن يصبح حقل ألغام ينفجر في جسد الشعوب ويحوله إلي أشلاء ممزعة؛ عندما ُيتعامل معه علي غير هُدي ومعرفة وبصيرة.

عرض مقالات ذات صلة
Load More By ياسر الغرباوي
Load More In تقارير ومقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

بامكانك الاطلاع على

لقاء مع المفكر المصري الباحث والمهتم بقضايا بناء السلام والمصالحة المجتمعية

يحاوره د.عبد الله مشنون  يُعد الأستاذ ياسر الغرباوي أحد المفكرين المصريين البارزين عل…