الرئيسية صدى الأحداث المسلمون والتضحيات .. أين سؤال الجدوى؟

المسلمون والتضحيات .. أين سؤال الجدوى؟

2 ثانية
0
0
3,125

ياسر الغرباوي

الفيلسوف الكبير فولتير يعتقد أن الإنجليز كانوا أكثر بارعة من الفرنسيين في حصد النتائج وتثمين المكاسب من خلال الأحداث الدامية التي مروا بها وهم في طريقهم نحو بناء دولة الحرية والمساواة والعدالة.

فالفرنسيون قدموا من التضحيات البشرية والمادية ما يفوق بمراحل ماقدمه الإنجليز ولكن في نهاية المطاف مجمل ما حصلوا عليه من ثمار حضارية على مستواهم الداخلي والخارجي يقل عما حققه الإنجليز من نتائج.

فعلى مستوى إدارة الدولة ووضع الدساتير وتوزيع السلط كانت التجربة الإنجليزية أنضج وأسرع من التجربة الفرنسية،وعلى المستوى الخارجي عاشت إنجلترا عقوداً عديدة في ظل إمبراطورية كونية لاتغيب عنها الشمس ، في حين تعثرت فرنسا بشكل واضح في دعم الاستقرار في مستعمراتها الخارجية.

نتائج هشة

هذه المعادلة التي تقارن بين طبيعة التقدم الإنجليزي وطبيعة التقدم لفرنسي تصلح في ذات الوقت كمدخل لفهم أسباب تخلف وتقهقر مجمل الدول الإسلامية والعربية في التاريخ المعاصر عن سبق الأمم والشعوب المعاصرة لها رغم ضخامة وعظم التضحيات التي قدمتها.

فيكفى أن نعرف عدد الشهداء الجزائريين الذي سقطوا في معركة التحرر من الاحتلال الفرنسي في الشمال الأفريقي ، وأن نعرف عدد اللاجئين والمشردين نتيجة الصراع العربي /الإسرائيلي، وأن نعرف عدد الضحايا الذي سقطوا في النزاعات الطائفية في العراق وعدد الضحايا الذين سقطوا في الصراع الداخلي على السلطة في الجزائر الخ.

فهناك أنهار من الأشلاء والدماء والدموع والألم قدمتها الأمة الإسلامية في تاريخها القديم والمعاصر بعضها أخبرتنا به بطون الكتب وبعضها تخبرنا به الآن شاشات الفضائيات ولعل أخرها المحرقة التي فعلها الصهاينة في قطاع غزه الصامد المقاوم الذي يقارع الصهاينة بصدور عارية رسما لوحة رائعة نسيجها من خيوط الثبات والعزة والكرامة رغم الحصار والدمار والنار..ورغم كل ما سبق تظل المنطقة العربية والإسلامية تحتل مراكز الصدارة بين الأمم والشعوب في مجالات التخلف والبطالة والأمية والفقر والاستبداد السياسي.

فلماذا تنجح بعض الأمم في تحويل تضحياتها إلي نتائج ملموسة في عالم الواقع في حين أن هناك أمم أخرى تذهب تضحياتها أدراج الرياح ؟؟

يرجع ذلك لجملة من الأسباب من أهمها:

– إدراك طبيعة الصراع:

طريق تقدم المجتمعات والأمم عادة ما يمر عبر جداول الألم والدموع فلا غرابه أن تتعرض أمه من الأمم أو شعب من الشعوب لتحديات قاسية ودامية ومؤلمة.

فإنجلترا عاشت أياما سوداء تحت وقصف وحصار النازي الألماني الذي كاد أن يغير الخارطة العالمية لولا التدخل الأمريكي لصالح دول الحلفاء، وتاريخ الأمة الإسلامية كذلك مملؤ بالعديد من الوقائع التي بدت في وقتها أنها قاضية عليها لامحاله مثل التحدي التتارى والصليبي، ولكن الأمم العاقلة هي التي تدرك طبيعة هذه التحديات وتحولها إلى تحديات خلاقة ترفع من شأنها وتنتقل عبرها نحو رحاب السيادة والكرامة والتقدم بأقل الخسائر الممكنة، وهذا ما حققته بعض الأمم المعاصرة ،فالتغلب على الصعاب والتحديات له مستلزمات عديدة ومتنوعة لابد من إعداد العدة لها.

وفى هذا الإطار من غير المقبول أن نسمع من بعض القادة والمفكرين والمبدعين في أمة من الأمم في أوقات الصراع والاشتباك مع الخصوم المعاندين أنهم لم يكونوا يدركوا أن ردة فعل العدو ستكون بهذه القوة والقسوة والضخامة ،لأن إدراك طبيعة ونوعية الصراع هو أول طريق النصر.

– استنطاق الوقائع والأحداث:

عندما يتلوى الطفل الرضيع ويعلو صوتية بالبكاء قليلون هؤلاء الذين يفهمون ماذا يريد بالضبط ولكن يكفى أن يكون في البيت شخص يعرف ماذا يريد.

وهكذا عندما تعترى الأمم التحديات والآلام من المعتاد أن تتسم ردات فعل جموع الأمة بالعاطفية والعفوية والارتجال ، ولكن الأهم أن تمتلك الأمم قدرا من الفلاسفة والمفكرين والإستراتيجيين والقادة الذين يغوصون خلف الوقائع والظواهر الاجتماعية مهما بلغ تعقيداتها وصعوبتها فيجعلون لها نسقا و لغة وفهما ُيمكن المجتمع من معرفة المسار الذي يجيب السير فيه من أجل تخطى هذا التحدي ، فكما أكد هيجل “أن بومة منيرفا لا تحلق إلا عند الغسق”، بمعنى أن الإبداع الفلسفي والفكري عادة لا يتجلى ولا تبرز الحاجة إليه إلا في ساعات غروب قوة الأمم والشعوب، فينقدح ذهن الفلاسفة والمفكرين والمبدعين نحو مسار إبداع الحلول وتكوين الرؤيا القادرة على انتشال الشعوب من مرحلة التيه والتخبط نحو مشارف المستقبل الواعد وإمكانية الفعل، والأخذ بزمام المبادرة حتى ولو كان الواقع صفريا، كما عبر الإمام الغزالي عن ذلك بقوله: “قد يكون في الجحيم نافذة على الجنة”.

– التصدي للوقائع فلسفة التفاعل لا الانفعال:

تزداد فرص الأمم في التغلب على التحديات عندما يتوفر لها مبدعين وقادة يعملون بآلية التفاعل ولا الانفعال بالأحداث ويكون همهم أن يخلقوا للوقائع والأحداث لغة و فهما يمكن من خلالها إبصار طريق الخروج منها وتعظيم الفائدة من التضحيات والدموع والألأم.

فالانفعال بالأحداث عادة لايوفر حلا ناجعاً لها ويكون مؤقتاً ويفتر مع مرور الزمن ولا يعبر عن خطة عمل لتجاوز التحديات وإنما كثير منه يقع في خانة الاحتجاج على الأحداث وليس مقاومتها على عكس التفاعل الإيجابي ،الذي يحول الانفعال بالأحداث إلي خطط عمل وبرامج يكون هدفها تحديد عقدة المشاكل والقضاء عليها.

– قطع طريق العودة أمام التحديات

كل مجتمع يتعرض لأنواع مختلفة ومتعددة من التحديات المفروضة عليه وتتباين أنواع هذه التحديات بين تحديات قاسية قهرية لايمكن تجاوزها مثل فقر في الموارد الطبيعة أو كون المنطقة تقع في القطب الشمالي (شعب الاسكيمو ) وهناك تحديات خلاقة تستفز المجتمعات للبحث عن وسائل ذهبية لتجاوزها مثل تحدى الاحتلال والمرض والفقر.

وعاده التغلب على التحديات الخلاقة يمر عبر شواطئ الفكر والتضحية والصبر والبحث عن عقدة التحدي والقضاء عليها مما يقطع طريق العودة أمام نفس التحدي المتجاوز من قبل

فهناك أمم تجاوزت تحدى الاحتلال وقدمت الشهداء والخسائر الباهظة وهذا ربما تحسنه كل الأمم على اختلاف ثقافتها وأديانها فالنموذج الفيتنامي في مقاومة المستعمر الأمريكي شاهد على هذا، ولكن ميدان التفوق والتفاوت بينها هو أن لا تقع هذه الأمم مرة أخرى تحت ظل احتلال جديد يكيدها خسائر وتضحيات جديدة ، بمعنى أن تقتلع هذه الأمم الظروف الداخلية و الخارجية التي تجعل الباب مشرعاً لقدوم المستعمر من جديد!!

وهناك شعوب عاشت فترات حروب أهلية وطائفية ولكنها تجاوزت هذه المرحلة وأبدعت وسائل ورؤى تقطع الطريق أمام عودة هذه الحروب إلي ساحتها من جديد ، هنا يمكن للتضحيات والدماء المبذولة لتجاوز التحدي أن يكون لها ثمن ولا تذهب سُدى مع تقلب الزمن وتبدل الأشخاص، وبالتالي ينبغي على كل أمة أن تبدع من الوسائل مايكفل أمرين اثنين:

الأول: التغلب على التحديات القائمة.

الثاني :-عدم السماح لها بالتكرار حتى لانعود للمربع رقم صفر من جديد.

أوروبا وتحدى الحروب الدينية

مرت القارة الأوربية بحروب دينية ضروس امتدت طولاً إلي قرابة المائة العام من الاقتتال والتدمير والحرق والقتل على الهوية وامتدت عرضا حتى انتظمت مجمل الدول الأوربية وامتدت عمقاً حتى أنها ساهمت في تشكيل الخريطة السياسية للدول الأوربية في التاريخ المعاصر.

ورغم وطأة هذه الحروب النفسية والبدنية على الشعوب الأوربية الإ أن المجتمع الأوربي المثقل بالجراحات أخرج تياراً من الفلاسفة والمفكرين والمبدعين يمقت منطق الفتنة والانقسام الذي أنتج هذه الحروب وأبحر هذا التيار وسط موجات العقل الأوربي باحثاً ومدققاً عن الحشائش الضارة التي ساعدت في إشعال هذه الحرائق الطائفية والعرقية ومن ثم أنتج أمصالاً فكرية كفيلة بالقضاء عليها وبشكل لايسمح بعودة كابوس العنف الطائفي مرة أخرى إلي البيت الأوربي، مما ساهم في استقرار المجتمعات الأوربية وتعافيها إلي حد كبير من طاعون الحروب الدينية وويلاتها السوداء.

فهؤلاء الفلاسفة والمبدعون أبدعوا سياقات فلسفية وسياسية واجتماعية جديدة يمكنها أن تسمح بخلق مجال للاختلاف يسمح بالتعايش وقبول الأخر المغاير في الاعتقاد والشريك في البقعة الجغرافية (الوطن ) مما ساعد في تنمية حاسة الانتماء والولاء في نفوس الشعوب الأوربية.

في تلك الحالة يمكن القول بأن الضحايا الذين سقطوا في المعارك والحروب الطائفية الأوربية لم تذهب دمائهم ودموعهم أدارج الرياح وإنما من خلالها أبصر هؤلاء الفلاسفة والمبدعين والقادة طريق الخلاص.

الهند وتحدى الاحتلال

في مرحلة الاستعمار البريطاني كانت الهند ترزح تحت نير الفقر والجهل والمرض وهيمنة المستعمر الذي يعتبر الهند درة التاج البريطاني ورغم كل هذه التحديات نجحت الأمة الهندية وعبر قائدها غاندي في كسر هيمنة الاحتلال والتغلب علية وجعل هذا الشعب الهندي الذي بدا للكثير من المراقبين في تلك الفترة أنه لايملك القدرة على الاعتراض والمقاومة ، إلى شعب يبدع فى أساليب مقاومة السلمية للاحتلال

في نهاية المطاف حمل المستعمر عصاه ورحل وانطلقت الهند في مسيرة تسابق الزمن نحو التقدم والرقى والازدهار وأصبحت من الاقتصاديات العالمية الكبرى وأصبحت تتعامل مع تحدى جديد هو نقل المجتمع الهندي من الفقر إلى الغنى ومن التخلف إلي العلم ومن المرض إلي الصحة والعافية ،وأغلقت الباب نهائيا وبشكل كبير في وجهة عودة المستعمر والهيمنة الخارجية عليها بكافة أشكالها الناعمة والصلبة.

تحديات في التاريخ المعاصر

وكما سبق وأن أشرت أن الامة العربية والإسلامية قدمت التضحيات الكبرى في موجهتها للتحديات المختلفة، ولكن القيمة المضافة لهذه التضحيات التي قدمتها الأمة لايتناسب مع النتائج التي حصدنا على كافة المستويات الحضارية والثقافية والاجتماعية.

أ‌- تحدى الاستعمار والاحتلال:

مازال قائما في العديد من بلدان المنطقة العربية والإسلامية بشكل مباشر: (الحالة العراقية والحالة الأفغانية والحالة الفلسطينية ).

أو بشكل غير مباشر : فى الهيمنة الخارجية على العديد من البلدان العربية مازالت قائمة وفاعلة وتمارس ضغوطها بفاعلية كبيرة على العديد من حكومات وشعوب المنطقة عكس التجربة الهندية والصينية في تخلصها من الاحتلال الغربي بكافة أشكاله والانتقال إلى مرحلة المزاحمة له في الأسواق العالمية والفضاء الكوني العالمي.

ب‌- تحدى تهديد النسيج الاجتماعي للمنطقة:

تعرضت المنطقة العربية والإسلامية في فترات من تاريخها القديم والمعاصر لاحتقانات داخلية مذهبية وطائفية وعرقية وقومية كثيرة وقدمت العديد من الضحايا والدماء والأشلاء في هذا الميدان بما لايتسع المجال لحصره وتفصيله، وهذا ربما يكون مقبولا عندما يأتي كفترة تاريخية في حياة شعب أو أمة من الأمم ولكن أن يكون هذا التحدي قائما في حياة شعب من الشعوب أو أمه من الأمم على مدار التاريخ القديم والمعاصر؛ هنا تمكن الكوارث وذلك يعنى أن طريق الاستقرار والتقدم أمام مجتمعاتنا سيظل مغلقا لعقود طويلة قادمة.

ولكن هذا لا يعد مسوغا لدفن رؤوسنا في الرمال وعدم التعامل مع المشكلة لأن هناك أمم تجاوزت هذه الأزمات الداخلية وقضت عليها وحفظت حاضرها ومستقبلها من هذا الوباء القاتل.

بعد هذه الجوالة الفكرية حول استجابة الأمم والشعوب للتحديات الخلاقة وحصد النتائج وتعظيم الفائدة منها أرى أن منطقنا العربية والإسلامية أمامها طريق طويل لتثمين الدماء والأشلاء وتحويلها إلى نتائج تأمن لنا طريق العبور نحو المستقبل دون الوقوع في فخاخ نفس التحديات وتكرار نفس المشاهد والمآسي التي لم تغادر ساحات منطقتنا العربية تقريبا منذ قرنين من الزمان.

عرض مقالات ذات صلة
Load More By ياسر الغرباوي
Load More In صدى الأحداث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

بامكانك الاطلاع على

لقاء مع المفكر المصري الباحث والمهتم بقضايا بناء السلام والمصالحة المجتمعية

يحاوره د.عبد الله مشنون  يُعد الأستاذ ياسر الغرباوي أحد المفكرين المصريين البارزين عل…