الرئيسية تقارير ومقالات أزمتنا الطائفية في ضوء التجارب العالمية

أزمتنا الطائفية في ضوء التجارب العالمية

0 ثانية
0
0
1,685

ياسر الغرباوي

تعد الصراعات الطائفية والاحتقان العرقي والحروب الدينية ظواهر اجتماعية غير مستغربة مرت على العديد من الأمم والشعوب خاصة في فترات تحولها التاريخية سواء نحو الأفضل أو نحو الأسوأ. فالحروب الدينية الأوربية مثل حرب الثلاثين عام وغيرها معروفة لدارسي التاريخ الأوربي، ومن بعض مشاهد هذه الحروب الأوربية _كما ذكرها أستاذ التاريخ الدكتور عبد العزيز الشناوي _ مثلاً اقتحام روما في 5مايو 1527 والتمثيل برجال الدين الكاثوليك واغتصاب الراهبات وضرب أعناق القسس والرهبان، وبلغ عدد القتلى في هذا الهجوم وحده نحو أربعة آلاف قتيل وسالت الدماء أنهاراً. وفي إطار هذا المسار التاريخي للتدافع الداخلي بين مكونات الأمة الواحدة شهد فجر التاريخ الإسلامي معارك مثل معركة الجمل، وصفين، وكربلاء، والحرة وغيرها من الملاحم . ولكن هناك أمم نجحت في التعامل مع هذه الصراعات وتقليصها، والأهم من ذلك عدم السماح بتكرارها، وأمم أخرى مازالت تتجرع مرارة هذا الملف آناء الليل وأطراف النهار.

التجربة الأوربية 

خرج الأوربيون من هذا النفق الطائفي المظلم واتجهوا نحو المستقبل المبنى على الاحترام المتبادل، والاعتراف بالأخر، والاتفاق على عدم فتح العلبة السوداء في التاريخ الأوربي، وأهالوا التراب على مايسمى “تاريخ مملكة الظلام”، وتعاملوا مع هذه الفترة التاريخية بأسلوب القطيعة معها، ونقلوا التعامل معها من ساحة الاستدعاء اليومي والممارسة السياسية والاجتماعية إلى ساحة السجال العلمي والأكاديمي في محاولة لاكتشاف القوانين الحاكمة لمسار التطور الطائفي والمعايير الضابطة لحركة المجتمعات في ظل موجة تعدد الانتماءات التي تشهدها كثير من مجتمعات العالم الحديث، وهذا لاينفي وجود بؤر للتوتر المذهبي والعرقي والطائفي في بلدان مثل أسبانيا وايرلندا ويوغوسلافيا سابقاً،  لكن في المحصلة النهائية جعلوا التنوع الطائفي والعرقي واللغوي مصدراً للقوة لا للضعف، عبر العديد من الإستراتيجيات والوسائل والتشريعات العديدة التي شملت كل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية الخ، مما يمثل رؤوس جسور لهم نحو الوصول إلى التسوية النهائية لهذا الملف الشائك.

التجربة العربية

والأمة العربية والإسلامية في هذا الإطار (الصراعات المذهبية و الطائفية والعرقية) تخضع للسنن الاجتماعية مثلها مثل كل الأمم والشعوب. فليس من المستغرب أن تشهد بعض فتراتها التاريخية العديد من السجالات الطائفية والعرقية. ولكن تتعقد المشكلة عندما تُصبح هذه السجالات والنزاعات ضيفاً دائم الحضور في التاريخ القديم والحديث و المعاصر للأمة، سواء في شكل تصريحات صحفية أو إصدارات دينية أو مناطق صراع ساخنة تصل إلى حد الاقتتال في بعض الأحيان، فلابد عندها من دق جرس الإنذار وإضاءة الأنوار الحمراء للإشارة إلى خطورة الوضع. وذلك للاعتبارات التالية

أولاً:  هذه المرة عاد المأزق الطائفي إلى دائرة الضوء والاهتمام عبر السجال الدائر بين الفريق المفترض أنه المعالج له (دعاة التقريب)، مما يستدعى التفكير الجدي في فلسفة ومستقبل فكرة التقريب، ووضعها في الميزان وخاصة وإنها مر عليها تقريباً ما يزيد عن نصف قرن.

ثانياً:  كشفت هذه الأزمة عن مدى حاجتنا إلى إبداع آليات ووسائل أخرى تساهم في علاج المشكلة بشكل حقيقي وفق برنامج واضح المعالم ومحدد الملامح في ضوء التجارب العالمية المعاصرة.

ثالثاً:  الأمم العاقلة وعت درس التاريخ، ووصلت لآليات تتعلق بتقنين الاختلاف وإدارته، ووضعت من التشريعات ما يكفل عدم دخولها نفق التجربة الطائفية من جديد، وأرى هذه الآليات تكاد تكون مفقودة في الحالة الإسلامية، بمعنى أننا الآن نقف على فوهة النفق الطائفي ولم نعى درس التاريخ. ولكن كيف تخطت الأمم المعضلة الطائفية والعرقية؟؟ تغلبت الأمم على المعضل الطائفي والعرقي عبر العديد من الوسائل ومن أهم هذه الوسائل

 الوسيلة الأولى: نقد الأفكار الانقسامية نقداً عميقاً بحيث ينفذ النقد إلى الطبقات العميقة لهذه الأفكار في شكل تحليل مدقق وعميق يشبه طريقة الطبيب النفسي في تعامله مع التاريخ النفسي للمريض من خلال الغوص في تعاجيد حياته اليومية وما صادفه من أحداث أملاً في العثور على عقدة المرض، وبعدها يبدأ في وصف العلاج منطلقاً من تفكك هذه العقدة. وقد استعملت أوربا هذه الطريقة في تفكيك الأفكار التي عصفت بها في عصور ما قبل النهضة والحداثة بحيث أصبح من العسير أن تجد الأفكار الانقسامية لها سوقاً أو رواجاً أو أنصاراً يدعمونها على مستوى الداخل الأوربي. وليست هذه دعوة لاستنساخ الحل الأوربي؛ بل دعوة لإبداع حلول مبتكرة انطلاقاً من ثقافتنا وهويتنا العربية والإسلامية، فمازالت الأفكار الانقسامية تمتلك أنصارا وحشوداً ولها القدرة على الفعل في العديد من الأرجاء الإسلامية، ولا يقتصر تأثير الأفكار الانقسامية على فصيل دون آخر أو طائفة دون أخرى، فالطرف السني ليس جسداً واحداً، وليس الطرف الشيعي جسداً واحداً، بل في حقيقة الأمر كلاهما منقسم إلى عدة تيارات، ومعرض ومرشح في نفس الوقت لعدة انقسامات جديدة يعادى بعضها بعضاً أحياناً. فهذه الروح النقدية للأفكار الانقسامية في الأمة الإسلامية مازالت خجولة ولاتشكل تياراً رئيساً في جسد الحالة الثقافية الإسلامية؛ بل في كثير من الأحيان لاتتوفر لها منابر ثقافية لها للتعبير عن رؤيتها للأحداث الجارية .. ومن أولى مراحل علاج هذه الأفكار: التعرف على واقع الاختلاف الفكري والثقافي السائد بين الطوائف القائمة على الأرض، ومعرفة المنظومة الفكرية لكل طائفة وتطورها عبر الزمن وما تحوى من أفكار. بمعنى رفع الواقع الطائفي وخاصة في جانبه الفكري كما هو وبكل موضوعية وإنصاف، وأرى مثل هذا النوع من البحوث يحتاج في عالمنا العربي إلى مزيد من الجهد والتأصيل. وفى هذا الصدد يذكر الأستاذ سليمان شفيق أن المسلمين لهم السبق والريادة في مجال دارسة الملل والطوائف وألفوا كتباً بعضها خاص بطائفة من الطوائف وبعضها عام، فألف أبو الحسن الأشعري كتابة “مقالات الإسلاميين”، وألف عبد القاهر البغدادي كتابة “الفرْق بين الفِرَق”،كما ألف ابن حزم الظاهري كتابه “الفصل في الملل والنحل “، ويعد كتاب “الملل والنحل” للشهرستانى دائرة معارف مختصرة للأديان والمذاهب والفرق.

الوسيلة الثانية: الاقتتال الداخلي الدموي فعبر الدماء التي سالت والأشلاء التي مُزقت والأديرة والمكتبات التي حُرقت اقتنع كل طرف في نهاية المطاف بفشل إستراتيجية إفناء الأخر والقضاء عليه نهائياً من الوجود. وأعتقد أن كل عاقل حريص على مصالح الأمة لايفضل الخوض في هذا المسار الدامي والمؤلم والذي يُولد الحقد الأسود العابر للزمان والمكان. ولكن كيف وصلت الطوائف والعرقيات التي تسكن في وطن واحد إلى المشهد الدموي القاسي؟؟ وصلت عبر الخطوات التالية : أولاً: استعلاء طرف على أخر وإدعائه امتلاك الحق والصوابية المطلقة. ثانياً: استدعاء النصوص المقدسة والروايات التاريخية الداعمة له.

الوسيلة الثالثة : مرحلة العداء والنزول ميدان السلاح والنزال بعد التعبئة النفسية المسبقة. فما يقع الآن في الساحة الإسلامية من سجال سني / شيعي يقف بنا على أعتاب مرحلة خطيرة تتراوح مابين حد الاقتتال الدموي في بعض المناطق مثل العراق وبين ومرحلة الاستعلاء والاستدعاء في مناطق أخرى كلبنان وبعض دول الخليج مما يدفع بالأمة نحو ثلاثة سيناريوهات متوقعة في ظل الوضع المذهبي المحتقن الآن كالتالي

السيناريو الأول: استمرار حالة الاحتقان المذهبي متمثلة في تصريحات العلماء والمراجع، واستمرار الحملات الإعلامية الرخيصة للعديد من الفضائيات والإذاعات والصحف، مما يدفع في مسار مرحلة الاستعلاء والاستدعاء والتي لو استمرت بكثافة عالية ربما تؤدى لمرحلة العداء و الصراع الدموي الذي ربما لايقف عند بقعة جغرافية بعينها وسيأتي على الأخضر واليابس خاصة في ظل وجود احتلال مباشر للعديد من الدول الإسلامية.

السيناريو الثاني: أن تتحول هذه الأزمة إلى فرصة ذهبية للنخب العاقلة نحو بناء إستراتيجية وآلية تقنن للخلاف المذهبي والطائفي وتضع له الأطر المناسبة، ومن ثم تنزع فتيل الأزمة من خلال تسليط إنارة معرفية جديدة بالعلوم الإنسانية بجوار الأدوات الشرعية التي استعملت وحدها في الفترات السابقة ولم تفض إلى نتائج ذات بال. فعلى سبيل المثال دراسة العوامل المؤثرة في إدراك التباين الموضوعي (أى الاختلاف في الدين أو اللغة والثقافة أو الأصل القومي أو السمات الفيزيقية) بين الطوائف والأقليات وما يترتب علية من نتائج بنائية وقيمة وسلوكية مسار يحتاج إلى جملة من الجهود المتعاونة بين فرق الباحثين و العديد من الجامعات العربية التي لابد أن تسرع بفتح أقسام خاصة تتعاطي مع قضية الأقليات والطوائف من كافة الزوايا والأبعاد، مما يساهم في خلق حلول متجددة للأزمات الطائفية سواء القديمة أو الطارئة وتعتبر هذه الأقسام بمثابة فرق طوارئ لمعالجة هذه المعضلة على المستوى الفلسفي والفكري. لذلك ينبغي أن تشهد المرحلة القادمة إطلاق العديد من المشاريع الفكرية النوعية التي تساهم في معالجة الأزمة منطلقة من اعتبار إن هذا التنوع العرقي والطائفي والمذهبي في المنطقة يمكن اعتباره نقطة قوة وليس نقطة ضعف كما عبر المناضل الأفريقي مانديلا عندما قال “لقد نجحنا في تحويل التنوع في جنوب إفريقيا من تنوع اشتقاقي إلى تنوع إشتمالى”. ومن هذه المشاريع وضع مناهج دراسية تدعم مسار التوافق والسلم الاجتماعي. ويمكن في هذا المسار الاستفادة من التجربة الأيرلندية وخاصة مشروع نحو تجاوز الطائفية الذي يطبق في المناهج هناك. السيناريو الثالث: يتمثل في تبريد الأزمة عبر عقد العديد من المؤتمرات الإعلامية وإصدار البيانات التصالحية وترك الزمن يفعل دوره في نسيان القضية من خلال بروز قضايا أخرى واعتبار هذه الأزمة الأخيرة هي من ُسحب الصيف التي تمر على المنطقة، وهذا السيناريو يعتبر بمثابة مخدر موضعي ولايمثل حلاً، والأحداث والوقائع المتجددة كفيلة ببروز المشكلة بشكل ربما يكون أكثر خطورة مما هي عليه الآن، خاصة وان المنطقة تستحوذ على العديد من الأعداء المعاصرين الذين يمتلكون وسائل التأثير على الملف العرقي والطائفي والمذهبي الهش للمنطقة، فمن المهم أن نعى درس التاريخ وأن نستفيد من التجارب البشرية السابقة نحو إبداع حلول عملية لأزماتنا الداخلية وفق قيمنا وثقافتنا التي كانت في فترات تاريخية مضرب المثل في قيم التسامح والعدالة، وكانت الملاذ الآمن للعديد من الطوائف المهاجرة والهاربة من الاضطهاد ومحاكم التفتيش الأوربية.

عرض مقالات ذات صلة
Load More By ياسر الغرباوي
Load More In تقارير ومقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

بامكانك الاطلاع على

لقاء مع المفكر المصري الباحث والمهتم بقضايا بناء السلام والمصالحة المجتمعية

يحاوره د.عبد الله مشنون  يُعد الأستاذ ياسر الغرباوي أحد المفكرين المصريين البارزين عل…